الرئيسية / القصة والرواية / ذات الرداء الاسود

ذات الرداء الاسود

ذات الرداء الأسود

ا. د. #محمد_المليجي

أزعجتنا هذه الحسناء ذات القوام الممشوق والشعر الغجري الكثيف المتربع على كتفيها كطفل شقي يداعب وجهها بيديه بين الحين والآخر وهي منشغلة بالحديث بهاتفها فتمتد يدها عشوائيا لتعيده خلف عنقها.  

الكل فى صالة السفر مهموم ومشغول بنفسه ورحلته التى ستبدأ بعد قليل، وقبل ان تقلع الطائرة من مطار القاهرة وفي صالة السفر شغلتنا هذه السيدة وهي تتحرك أمامنا كالمكوك ذهابا وإيابا وهي تتحدث بهاتفها بصوت مرتفع غير مبالية بمن حولها.  ارتفعت درجة حرارة حوارها مع الطرف الآخر فجأة وأخذت تستخدم يدها الأخرى وتحرك أصابعها فى حماس شديد وكأن من يحدثها يقف أمامها. 

كانت هذه السيدة على ما يبدو  تتحدث مع صديق ما تركته خلفها فى مدينة القاهرة وطال الحديث بينهما بين عتاب وشجن وظننا ان هذا الحديث سينتهي بعد دقائق لأننا على وشك الدخول الى صالة الاقلاع.  ولكن تأخر إقلاع الطائرة ساعة كاملة ولم تتوقف هذه السيدة الثرثارة عن الحديث وهي تتنقل من مكان الى مكان ومن مقعد الى مقعد غير مكترثة  بمن حولها من الركاب الذين أجبرتهم على ان يسمعوا ويتابعوا حوارها بشغف. 

الجميع كان يتظاهر انه لا يسمع ولا يهتم بما تقول ولكن الحقيقة غير ذلك خاصة عندما قالت بصوت جهوري رغم ان الساعة كانت الثالثة صباحا  “انت عارف انا بقدرك وبحبك قد إيه يا ميشو واللى عملته معاك  زمان وفى الإجازة دي مش مجرد تقضية وقت. 

بعد هذه الجملة بدأ الناس الذين يتكلمون العربية طبعا وكانوا ليسو قليلون يسترقون السمع لحديثها ويكادون يمشون خلفها في صالة المطار لسماع باقي القصة وكأنه مسلسل رمضاني هبط عليهم من السماء سينسيهم هموم سفرهم.  

كانت السيدة في الأربعينات من العمر ولكنها كانت تتشح بالسواد الذي امتد الى شعرها الأسود كالفحم وعيونها السوداء التى كانت تتأرجح مقلتيهما مع كلماتها يميناً ويسارا وفى كل الاتجاهات كأنها كاميرا تصور انفعالات صديقها ميشيل على الطرف الآخر من خط التليفون. 

فهمنا من حديثها قبل إقلاع الطائرة انها أتت من أمريكا لزيارة عابرة إلى مصر وأنها عائدة الى عملها بعد ان قامت بمهمة لا نعرفها بعد ولكنها التقت أصدقاء وأقارب كثيرين في هذه الزيارة وأنها أدت نحوهم الواجب ولكن ميشيل هذا له صفة خاصة وموقع خاص فى حياتها.  

كان حديثها مع ميشيل خليط من العتاب والذكريات وتتصاعد منه رائحة حب قديم وحميم ولكن الحديث توقف عندما أعلنت شركة الطيران ان على الركاب الاستعداد الى الصعود الى الطائرة.  تلكأت السيدة  قليلا وانخفض صوتها وهي تودع ميشيل وقد تبللت عيونها بالدموع وطوت غطاء تليفونها ووضعته فى حقيبتها وتوجهت لركوب الطائرة. 

صعدنا الى الطائرة وبحثنا عن مقاعدنا حيث جلست انا وزوجتي وكان أمامنا مقعدا خاليا من الركاب الا من بالطو أسود وكتاب عليه صورة المسيح عليه السلام بعنوان ” الأجبية” من مكتبة المحبة. 

ظننت للحظات ان قسيسا سيجلس أمامنا ولكنى فوجئت بعد قليل أنها نفس السيدة الثرثارة التى كانت تتحدث لميشيل فى التليفون فى صالة السفر وكانت قد سبقتنا الى الطائرة وخلعت جاكيت أسود وتركته على مقعدها مع هذا الكتاب وذهبت الى دورة المياه. 

عادت السيدة الى مقعدها وكانت ترتدي  فستانا أسودا آخر مطرز الصدر والأكتاف ولكنه كان ملتصق بشدة بجسدها ليظهر تفاصيله بأمانة بالغة وقد كشفت عن ذراعيها حتى الكوع وارتدت صليبا فضيا وسلاسل ذهبية تغطي صدرها وفى أحد هذه السلاسل لمحت صورة لرجل لا بد انه كان عزيزا عليها ربما ابيها او اخيها او زوجها. 

قبل ان تجلس فى مقعدها رمقتنا بل تفحصتنا وألقت علينا السلام ثم وضعت الجاكيت الأسود فى رف الحقائب. جلست تتلفت يميناً ويسارا وكأنها تبحث عن أحد ثم امسكت بكتاب الأجبية وقبلته ثم فتحته وقبلت ما بداخله وحشرته فى الجيب خلف المقعد الذي أمامها وظلت تنتظر الراكب القادم للجلوس جوارها وكأنها تبحث عن رفقة فالطريق من القاهرة الى امريكا طويل ويستغرق اكثر من ١٢ ساعة والجميع محبوس فى مقعده فى هذه الطائرة. 

حضر راكب فى مثل سنها تقريبا وكان مصريا أيضا ولكنه ممتلأ الجسم ويبدوا من اول وهلة انه من عشاق النوم فى الطائرات وجلس جوارها وكانت الطائرة مازالت واقفة ودرجة الحرارة مرتفعة بعض الشيء. 

لم تكن السيدة سعيدة بارتفاع درجة الحرارة فظلت تعبث بمفاتيح المكيف فوق رأسها وعندما فشلت فى جلب هواء بارد امسكت بمجلة الطائرة وصنعت منها مروحة للتهوية عليها وعلينا وكان عطرها ينساب مع نسيم هواء مروحتها الى من حولها مما أثار انتباه وتساؤل من حولها عن هذه المتشحة بالسواد التى يفوح منها العطر بهذه الطريقة. 

بدأت الطائرة فى الإقلاع وهدأت السيدة  فى مقعدها بعد ان انساب هواء مكيف الطائرة وبدأت وهي مسترخية تتعرف على جارها فى المقعد الذي أمامي مباشرة وكان مهندس كيميائي يعمل فى شركة من شركات السيارات واسترسلت معه فى الحديث الذي كنا نسمعه جيدا وكأنها فى جلسة لدي طبيب نفساني. كانت السيدة  تتحدث وتفضفض عن أشياء كثيرة فى حياتها وكأنها غير مهتمة بمن حولها فهم مجرد رفقة ستتبخر بمجرد وصول الطائرة وبعد ساعات. 

كان حديثها فى الطائرة هاديء يأتي من أعماق نفس مرت بتجربة بل تجارب إنسانية قلما تجد مثلها فى بلاد أخري ولكنها شائعة الحدوث فى بلادنا خاصة فى ريف وصعيد مصر حيث تلعب العادات والتقاليد الدور الأساسي فى توجيه مقاليد الحياة. 

تعمل كارولين منذ اكثر من عشرون عاما فى امريكا وهي الآن موظفة فى احد بنوك  مدينة سياتل بولاية واشنطن وقد حضرت الى القاهرة منذ شهر ونصف بصحبة جثة زوجها ليدفن فى مدافن الأقباط بمدينة المنيا حسب وصية زوجها الذي أوصي بها قبل وفاته بأن يدفن فى مقابر عائلته بالمنيا. 

تقول كارولين انها كانت مهمة شاقة للغاية  حيث تمر عملية إعداد الجثة في امريكا للنقل بالطائرة شهر تقريبا بتكلفة باهظة وتُقسم كارولين بالمسيح انه لولا خوفها من كلام الناس والقيل والقال لكانت دفنته فى سياتل او أحرقت جثته وألقت بترابها فى النهر كما يفعل الكثير من الناس فى امريكا واوروبا. 

بدا واضحا من مقدمة حديث كارولين انها لم تكن على وفاق مع زوجها الراحل.  ولكن جارها فى المقعد المتحفظ جدا فى كلامه والذي يتمني ان تتركه ينام تنبه بعض الشيء من كلامها ووجد نفسه يسألها عن عملية حرق الجثة ومدي حرمانيته فى الدين المسيحي.  

قالت كارولين : 

أكيد حرق جثث الموتي فى الدين المسيحي محرم  ولكن من يفكر في  الحلال والحرام هذ الايام .. الناس تبحث  على الأرخص والأيسر ولازم نكون عمليين وزوجي ليس افضل من مارجريت تاتشر التى حرقت جثتها . ولكنه كان دائما أناني ولا يفكر الا فى نفسه كان يسبب لى المتاعب فى الدنيا وأصر يتعبني فى موته. 

اجبرت على أخذ اجازة شهرين بدون راتب لكي احقق وصية حضرته ليدفن مع ابويه وأخواته رغم انه لم يسأل عنهم ابدا عنهم طول سنوات هجرته والآن يشاركهم مقابرهم.  

تقول كارولين  انها كانت منذ طفولتها فتاة صعيدية متطلعة تحب الحياة وتتمني ان تنهي دراستها الجامعية بعد ان نجحت فى الثانوية العامة والتحقت  بكلية التجارة جامعة المنيا. أثناء دراستها وفى احد الرحلات الجامعية رأت شابا لفت نظرها اسمه ميشيل.  تقرب اليها الشاب ووقعت فى حبه  حتي اصبح ميشيل فارس أحلامها الذي تود ان تكون معه بقية حياتها.

 ورغم تشدد أهل الصعيد وعيونهم التى لا تتوقف عن المراقبة للآخرين حتى فى عز الليل الا ان حقول القصب التى كانت تمتد على الطريق من القرية  الى الجامعة كانت سترا وغطاء على لقاءات ميشيل وكارولين التى كانت دائما لقاءات بحلاوة ولزوجة عصير القصب الذي ارتشفاه معا مرات ومرات وقد أقسما بالمسيح ان يتزوجا بعد التخرج. 

في يوم أسود كما تصفه كارولين تبدد الحلم وتبخر عصير القصب عندما حضر المهندس لبيب من أمريكا يبحث عن زوجة وقد سبقته اخته وامه الى بيت كارولين الجميلة التى وقع اختيارهم عليها لتكون زوجة للمهندس لبيب. 

 عادت كارولين مجهدة من لقاء ميشيل المعتاد فى حقول القصب بعد يوم دراسي فى الجامعة وكان شعرها الأسود مسربل على جبهتها وملابسها غير مهندمة تعلقت بها الأتربة وكأنها كانت تتمرغ على كومة من القش. 

شاهدتها أمها من بعيد فهرولت اليها قبل ان تراها ام لبيب وأختها وجذبتها من يدها الى حجرة اخري وقالت لها:

  • مالك يا بت مبهدلة كده الله يكسفك.
  • خشي جوا اغسلي وشك وغيري خلجاتك دي وحطي اي لون فى وشك وتعالى المندرة قوام. 

وقفت كارولين مندهشة وهي لا تستوعب ما تسمع ولا تدري ما هي القصة ولماذا تريد منها أمها ان تتجمَّل وتأتي الى مندرة البيت ولكن حيرتها لم تدوم كثيرا فقد حضرت إليها أختها الصغيرة الشقية سامية وهي تضحك وتقول:

  • البسي واتزوقي يا كارلا (اسم الدلع لكارولين) بسرعة جايلك عريس من أمريكا. 

وقع الخبر على كارولين كالصاعقة فلم تكن تخطط ابدا للعريس الذي نزل عليها من السماء قادما من أمريكا وهي التى لم يجف رحيق لقاءها مع ميشيل بعد والذي تركته للتو في حقل القصب ليخرج من الجهة القبلية من الحقل كعادته بعيدا عن عيون الناس. 

ذهلت كارولين للخبر وظلت تسأل نفسها كيف يكون لى عريس غير ميشيل وكيف سيكون موقفي مع هذا العريس وعلاقتي كانت به عميقة… مش ممكن ..  مش ممكن.  

 تسمرت كارولين فى مكانها وهي تحدث نفسها أمام مرآة مشروخة مثبته فى باب دولاب جدتها القديم وقد تآكلت أطراف المرآه وتسرب التلف لأجزاء كثيرة منها لتزيد المنظر كئابه، ولكنها لم تكن تري نفسها فى هذه المرآة المعتمة بقدر ما تري خيال ميشيل يقبع بين شروخها الممتده رأسيا بطول المرآة  وكأنها أعواد القصب التي شهدت قصة حبهما. 

تأخرت كارولين وقلقت الأم  فتركت ضيفتيها ودفعت الباب عليها بهم طافح وهي تقول لها: 

  • إنتي لسة ملبستيش يا مقطومة الرقبة .. قدامى على الحمام ويالا البسي خلقاتك  ثم فتحت الدولاب القديم واختارت لكارولين البلوزة الحمراء والجونلة السوداء التى تستخدمهما كارولين فى المناسبات المهمة فقط  فتزيد من جملها، ثم سحبت سلسلتها الذهبية والشيء الوحيد الذي ورثته من امها من دولابها ووضعتها فى عنق ابنتها وجملتها قليلا ببعض المساحيق ورتبت لها شعرها وقرصتها فى وجنتيها وظلت تهندم فيها ثم سحبتها كالبقرة الى حيث تجلس ام لبيب وأخته. 

لم تنطق كارولين بكلمة واحدة في هذا اللقاء المفاجيء وكأنها أصيبت بالخرس وجلست امام الخاطبتين وهن يرتشفون الشاي وقد اتسعت عيونهم وهم ينظرون الى العروس وقالت ام لبيب:

  • ما شاء الله .. والعدرا بنتك بدر ليلة ١٤
  • بس  ابني  لبيب برضه ما شاء الله راجل حا يعجبكم. 

قالت ام العروس: 

  • ربنا يبارك لك فيه بس لازم المهندس لبيب يتفضل يشوف العروسة بنفسه وخالها حا يكون موجود .. الله يرحمه ويقدس روحه ابوها كان نفسه يشوف اليوم ده. 

بمنتهي البساطة وافقت أم كارولين مبدئيا على زواج كارولين من لبيب الذي يكبرها ب ٢١ سنة ولم تراه او تعرفه من قبل فقد سافر امريكا وكارولين بدأت تتعلم السير. 

استمرت أم كارولين  وكذلك خالها يشكرون في لبيب قبل ان يروه لمجرد انه مهاجر لأمريكا ومعه فلوس قد الدنيا وأهله ناس طيبين كما ان القس غبريال راعي الكنيسة بيشكر فى اخلاقه واخلاق عائلته قوي كما يدعون. 

فى اليوم التالي حضر المهندس لبيب بصحبة أمه وأخته  وكان أصلع الرأس نحيل البنية خمري اللون يرتدي جاكيت زرقاء قاتمة وكرافته حمراء وبنطلون رصاصي وقد تسرب الشيب للشعيرات القليلة الباقية فى إطار رأسه وشاربه النحيل. 

كان لبيب متحدث حلو اللسان فجلس يطري القول لأم كارولين وخالها حتى دخلت عليهم كارولين الجميلة فهب واقفا ليستقبل هذا القمر الذي يمشي على الأرض وزاغ نظره وتلعثم لسانه وهو يصافح كارلا الصغيرة. 

ظلت كارلا تنظر الى لبيب احيانا وتغيب عن المكان احيانا وقد شرد ذهنها فلا تسمع ما يقال او تري ما حولها حتى سمعت أمها تقول لها

  • طبعا موافقة على العريس يا كارلا والمهندس لبيب ميتعيبش
  • صمتت كارلا ولم ترد
  • وهنا قالت أم العريس  أن السكوت علامة الرضا وواضح ان كارلا خجولة جدا والأيام دي خجل البنات نادر وده دليل على حسن تربيتها
  • كان المهندس لبيب لا بد ان يعود لأمريكا خلال أسبوع  وكان يجب ان نتخذ القرار بسرعة خاصة بعد ان أبدى لبيب اعجابه بكارولين من اول نظرة. 

تقول كارولين وافقت أمي  مبدئيا على الزواج وترددت أنا كثيرا وحاولت إفساد هذا الاتفاق فوضعت شروطا ظننت انها ستكون معجزة او منفرة للعريس ليتركني فى حالي. 

طلبت من العريس ان اكمل دراستي الجامعية فى امريكا وأن اعمل بشهادتي هناك بعد التخرج وان يكون لى دخل مادي مستقل  وأن يوافق لبيب على هجرة أمي معي اذا رغبت فى ذلك. 

ولكن لبيب فاجئني ووافق على كل طلباتي وأغدق علينا بالهدايا قبل أن يسافر.    

كانت أمي تدفعني دفعا للزواج من لبيب الذي لم استلطفه أبدا ولم يكن يحمل شيئا من صفات فتي أحلامي ميشيل فى خفة ظله ووسامته والذي امتلك قلبي والزواج عند الأقباط عقد أبدي لا انفصام فيه.  وكما يقول المثل الزواج عندنا مثل البطيخة إما حمراء او قرعاء ولا رجعة فيه. لذلك يتأخر سن الزواج كثيرا بين الأقباط  لصعوبة اتخاذ القرار وتوابعه. 

أخبرت كارول ميشيل بأن عريسا من أمريكا هبط عليها من السماء يعمل مهندسا ولديه اموال كثيرة وتقدم  لها ويريد الزواج منها خلال اسابيع. 

 كان ميشيل امام هذا الموقف قليل الحيلة مثل كل شباب مصر فى هذا العمر لا يستطيع فعل شيء وهو شاب لم يكمل دراسته الجامعية بعد وليس فى إمكانه التقدم لكارول الجميلة.  وهو لا يملك شيئا تقريبا الا حبه الجارف لها والعقد السري الذي عقده معها بين أعواد القصب. والحب ليس مصوغا رسميا للزواج فى عرف الناس ولا يمكن ان يقف امام زواج المهندس لبيب من كارولين. 

سأل الرجل الجالس جوار كارولين:

  • لم اسمع اسم كارولين هذا فى صعيد مصر فهل هو شائع بين الأقباط ؟
  • قالت كارولين: 

–  أخبرتي أمي ان هذا الاسم كان لراهبة انجليزية جميلة كانت تعلم الناس  حرفة الخياطة بالكنيسة عندما ولدت كارولين وكانت أمي تحبها فسمتني على اسمها.

واصلت كارولين قصتها فقالت:

  • بكيت كثيرا وامتنعت عن الطعام حتى نحل جسمي ومرضت وكانت كل نساء القرية من المسلمين والمسيحيين يتبارون في جلب الوصفات البلدية لعلاجي وقد أصبحت سقيمة وتحولت الى جلد على عضم لا يظهر من وجهي بوضوح الا عينان جاحظتان. 
  • عجز آطباء المنيا عن علاجي  فأخذت أمي قطعة من ملابسي الداخلية وطارت بها الى الشيخة قدرية بحثا عن حل عند المسلمين لعل وعسي ان ينفخ الله فى صورتي قبل أن يأتي لبيب فى اجازة أعياد الميلاد ليتزوجني. 

وفي احدي الليالي حضرت لزيارتي رفيقة الدراسة وصديقة عمري فاطمة وهي طيبة القلب تعرفت عليها منذ كنا فى مدرسة عثمان ابن عفان الثانوية للبنات وكانت بنت شقية مثلي ولكنها وقعت فى الحب مبكرا بشاب مسلم مثلها كما وقعت انا فى حب ميشيل وأنا فى الجامعة.  ولكن فاطمة افترقت عنه بعد ان دخلت الكلية وكانت فاطمة تعرف أنى أحب ميشيل وهو يحبني ليس أكثر. 

بينما كانت كارولين مسترسلة فى حكايتها تململ الراكب جوارها وفك حزام الأمان وشعرت كارولين بأنه يريد ان يقول لها شيئا وبالفعل كان الرجل يريد ان يأخذ استراحة من قصتها الطويلة ويذهب الى الحمام. 

مرت اكثر من نصف ساعة ولم يحضر الرجل الذي ذهب الى دورة المياه فنهضت كارولين من مقعدها منزعجة من غياب جارها وظلت تتلفت حولها بحثا عنه ثم نظرت  إلى وقالت: 

  • مش حضرتك شفت واحد كان جالس هنا جنبي 

قلت لها: 

  • نعم وترك المقعد منذ فترة 

قالت: 

  • ابتسمت وهي تقول يعني انا مش مجنونة ومش بيتهيأ لى أن كان فيه واحد جالس جنبي؟ 

قلت لها:

  • بالطبع لا .. ما هي الحكاية 

قالت: 

  • الراجل اختفى من الطائرة ودورات المياه فاضية ومش موجود مع الركاب يبقي راح فين؟

قلت لها: 

  • هذا غير معقول فقد كان يجلس هنا جوارك ويسمع لك. 

توقف الحديث بيننا عندما حضرت المضيفات يحملن وجبة العشاء فجلست كارولين فى مقعدها لتناول وجبتها وهي تقول:

  • منه لله لبيب جنني وهوا عايش وعايز يكمل عليا وهوا ميت وخلاني اتصور ان فيه واحد جالس جنبي وفضلت أكلمه عن حياتي وانا فى الواقع بكلم نفسي. 

لم نعلق على كلام كارولين لأننا متأكدين ان رجلا كان يجلس جوارها وكنا نسمع كل ما تقوله له ولكن اين ذهب ولماذا لا يعود حتى نسمع باقي القصة. تملكت منا الحيرة أيضا ونحن نتناول وجبة العشاء حتي انتهت الوجبة وجمعت المضيفات مخلفات الغذاء وإذ بصاحبنا يعود إلى مقعده. 

نظرت له كارولين شزرا وقالت له إنت رحت فين يا أستاذ قلقتنا عليك أكيد انا صدعتك بحكايتي. 

ابتسم الرجل وقال: 

  • ابدا والله دا انا مستمتع بقصتك بس كنت عايز آخد تغفيله قصيرة ولقيت مقعدين خاليين خلف الطائرة فلفيت راسي فى بطانية وعسلت شوية لحد ما ايقظوني على الأكل ودلوقت مصحصح ومستعد اسمع باقي القصة. 

قالت: 

  • احنا وقفنا فين

قال : 

  • وقفنا عند صديقتك فاطمة لما جت تزورك وانتي عيانة .. علشان تعرفي أني متابعك كويس.  

قالت كارولين:

– انا تعجبني الرجالة المصحصحة ..  ثم استمرت فى قصتها العجيبة.

تقول كارولين: 

حضرت فاطمة لزيارتي وجلست معي وكانت تدعوا لى بدعاء جميل سمعته كثيرا كل جمعة من إمام المسجد الكبير المقابل لكنيستنا الصغيرة فى البر الغربي من الترعة. كنت اسمع أدعية كثيرة من المسجد تروق لى وأردد مع المسلمين آمين وكانت فاطمة ودودة وحافظة للكثير من الادعية. 

خرجت أمي وتركت فاطمة معي التى تحينت الفرصة وأخرجت من حقيبتها قطعة من الورق ودستها فى يدي تحت الكوفرته التى أغطي بها معظم بدني المتهالك. 

دفنت الورقة تحت مخدتي وبعد ان خرجت فاطمة طلبت من أمي ان تتركني وحدي لكي أنام  قليلا. 

بعد ان خرجت أمي  فتحت الورقة المطوية أربعة طيات وكأنها حجاب وكانت رسالة من ميشيل بها سطر واحد يقول فيه ” لازم أشوفك الليلة أنا منتظرك طول الليل عند عشة حراس القصب المهجورة اللى انت عارفاها. 

قرأت كارولين الورقة وكأن تيارا كهربائيا اجتاح جسدها من أطراف أصابع قدميها حتى نهايات خصلات  شعرها الأسود الذابل فانتشي شعرها نشوة نبات عطشان روته فجأة قطرات مطر من سحابة عابرة فدبت فيه الحياة. 

لم تتمالك كارولين نفسها ودفعتها الرغبة الجامحة للقاء ميشيل فى ان تكسر كل القيود وتجتاح كل السدود لتصل إليه.

  تسللت كارولين من حجرتها وخرجت من البيت تحت ستار الليل الدامس لا ينير لها الطريق الا ضوء خافت لقمر يحتضر، ولا يؤنسها الا صوت دقات قلبها وصوت احتكاك حذائها بحصي الطريق الموحش الجاف وبقايا اوراق القصب الجافة حتى وصلت الى عشة الحراس المهجورة حيث كان فى انتظارها حبيبها ميشيل. 

التصق الجسدان وروي الرضاب الرضاب واختلطت دموع العشق بحرارة اللقاء ولوعة الفراق فكان مزيج من أشياء وأحاسيس يندر ان تلتقي.

 جلس الحبيبان فى ظلمة الليل على كومة القش عند باب العشة المهجورة و بدأ ميشيل الحديث قائلا:

  • لقد فكرت كثيرا فى أمرنا يا كارلا ووجدت انه لا مفر من زواجك من العريس الذي تقدم لك فليس فى مقدوري مجابهته وعلينا ان نقبل امر الله. 

نظرت له كارلا مندهشة لا تصدق ما تسمعه من ميشيل ودفعته بكلتا يديها بعيدا عنها وصرخت قائلة: 

  • الهذا جئت بى الى هنا فى أنصاف الليالي .. لم اتخيل انك ستستسلم بهذه السهولة .. ظننت انك ستطلب منى ان نهرب سويا من هذه البلدة ونعيش لحبنا. 

طأطأ ميشيل رأسه وسكت برهة وقال:

  • نهرب إلى أين وكيف سنعيش يا كارلا

قالت:

  • ليتك فكرت في ان تكون معي حتى ولو لم تنفذ فكان هذا سيكون برهان حبك لى ولكنك تقول لى اذهبي وتزوجي من آخر. 

 قال ميشيل:

  • غصب عني يا كارلا ليس باليد حيلة وانت تعرفين كم أحبك. 

نهضت كارلا مسرعة وخرجت من العشة وهرولت على الطريق عائدة إلى بيتها قبل ان تكتشف أمها غيابها وهي تسمع نداء ميشيل كارلا … كارلا.. كارلا.. حتى اختفى صوت ميشيل وهي تلهث على طريق العودة المظلم الذي يأخذها من قصة حب وأمل عاشته سنوات إلى بداية مجهولة ومستقبل محفوف بالمخاطر مع المهندس لبيب. 

حاولت كارلا ان تنسي ميشيل وتعد نفسها لحياة جديدة فى أمريكا هذا البلد الذي يتحدث عنه الناس دائما ويتمني الكثيرون الذهاب إليه والعيش فيه. 

كان أهل القرية يحسدون كارلا على انها ستتزوج وتعيش فى امريكا حلم الشباب والكبار على السواء ولكن كانت كارلا متوجسة من كل شيء حولها وخاصة من عريسها المنتظر الذي لم تجلس معه وتراه الا لساعات وخاصة ان الزواج لدي الأقباط عقد أبدي دونه الموت.  

مرت الأسابيع قلقة وطويلة وكارلا قد تركت الدراسة بالجامعة لتجهز لعرسها. وفى إجازة اعياد الميلاد حضر لبيب من امريكا وتكررت لقاءاتهم وهم يترددون على السفارة الأمريكية لإعداد أوراق السفر. 

بدأت كارولين تتعود على عريسها وان لم تتقبله زوجا بعد. 

تقول كارولين: تمت إجراءات الزواج المعتادة بالكنيسة وحضر حفلنا البسيط أفراد عائلتينا وصديقتي فاطمة التى كانت الوحيدة التى تشعر بما  أشعر به.

 لم اكن سعيدة بل يتملكني الخوف وأشعر اني ساصتدم بحائط ضخم ولا أدري ماذا سيصيبني وكان قلبي مقبوضا وضرباته غير منتظمة من شدة الخوف من القادم. 

كان لبيب يبدوا سعيدا ولكنه كان غامضا بالنسبة لى وساءني كثيرا انه كان يتعامل معي كفتاة ريفية ساذجة وهو المهندس القادم من أمريكا يعرف كل شيء فى الحياة، وتناسي تماما أني فتاة جامعية أعرف فى شئون الحياة الكثير والكثير اكثر مما يتوقع ولكنى تركته يقول ما يريد.  

جاء يوم السفر الى أمريكا ولم يدخل بي لبيب بعد، حيث اتفقنا ان نأجل زفافنا الى ما بعد وصولي الى أمريكا رغم الحفلة البسيطة التى أقمناها فى مصر.  

وصلنا مطار القاهرة وكان لبيب يحمل معه حقائب عديدة لا أعرف ما بها بينما اقتصرت حقائبي على حقيبتين حسب تعليمات لبيب الصارمة الذي حدد لى انواع الملابس والاشياء التى احضرها معى وكنا له سمعا وطاعة لأنه يعرف أكثر.

هبطت بنا الطائرة فى نيويورك وبعد اربع ساعات استقلينا طائرة أخري إلى سياتل استغرقت خمس ساعات اخري لنصل بعد عشرون ساعة من السفر تقريبا الى بيت لبيب وبيتي الجديد. 

وصلنا البيت فى المساء وكانت الدنيا مظلمة لا يمكن ان تري ملامح الطريق وكنت متعبة أفتح عيناي بصعوبة ولكنى دهشت ببيت لبيب الذي تحيط به حديقة كبيرة اكبر من دوار العمدة فى قريتنا ودهشت اكثر عندما رأيت البيت من الداخل بحجراته الكبيرة وان كان أساسه قليل وشبه مستعمل. 

لم يكن أمامنا الا ان ننام كالقتلي بعد يوم سفر طويل لأستيقظ فى الصباح وابحث عن لبيب فلا أجده. 

  خرجت من حجرتي استطلع تفاصيل بيتي الجديد وكان بيتا أمريكيا معتادا به كل متطلبات الحياة وعندما حاولت الخروج للحديقة وجدت ان كل الأبواب موصدة. 

بعد ساعة تقريبا تملكتني فيها الحيرة ودب الخوف في قلبي وجدت لبيب يعود حاملا معه بعض الكعك والحليب لتناول الافطار وبدأت حياتي الجديدة مع المهندس لبيب فى أمريكا. 

اكتشفت من اول يوم ان لبيب شخص بخيل جدا يشك فى كل شيء حوله ويعتقد ان كل الناس لا تعرفه الا لمصلحة وان البعد عن الناس غنيمة ولذلك لم يكن له أصدقاء.  

ظل لبيب يعامل كارلا كطفلة لا بد ان تسمع نصيحته فى كل شيء تقريبا وحاول ان يقنعها انه يغلق كل ابواب ونوافذ البيت حولها عندما يخرج  ليحمينها من الأشرار المنتشرون فى كل شبر من أمريكا.  

اكتشفت كارولين ان حقائبه الآتية من مصر معبأة بأصناف عديدة مِن أطعمه مصرية تمتد من الفول والبسطرمه حتى الجبن الرومي والزيتون وقد عبأ الثلاجة بها ووضع الباقي فى المجمد حتى يأتي وقت استخدامه. 

 اكتشفت كارولين ان لبيب احضرها من مصر ليستمتع بها فقط  ويضعها في سجن لا تستطيع الخروج منه الا برفقته ولم تتذوق فيه الا الطعام المصري الذي جلبه معه من مصر. 

لم تكن كارولين تجيد اللغة الانجليزية  وليس لديها أصحاب وحتى تليفون المنزل كان لا يمكن استخدامه دوليا فانقطعت صلتها بأهلها تماما وأصبحت أسيرة لبيب. 

 ولكنها رغم كل ذلك لم تيأس. 

تواصل كارولين قصتها :

كنت أستجديه ليأخذني معه فى السيارة لأري هذا البلد الجميل الذي يعيش فيه ولكنه كان يرفض لانشغاله بعمله وعندما يوافق يصحبني فى المساء وعندما طلبت منه العشاء خارج البيت معه لاتذوق الطعام الأمريكي ثار واتهمني بالشذوذ وقلة الذوق لأَنِّي أفكر فى طعام الأمريكان الرديء ولدي الطعام المصري الأصيل الطبيعي الخالي من الكيماويات المسرطنة. 

حنث لبيب بكل وعوده نحوي وشعرت ان حياتي ستضيع هباء مع هذا الرجل غريب الأطوار بل ساورتني الشكوك انه قد يقتلني إذا خالفته الرأي. 

كنت اشاهد التلفزيون كثيرا وبدأت اتعلَّم اللغة شيئا فشيئا وفهمت من التلفزيون  ان اي مواطن أمريكي يمكن ان يستنجد بالبوليس اذا طلب رقم ٩١١  وقررت طلب النجدة لتخلصني من هذا السجن الذي أعيش فيه لشهور منقطعة عن العالم ولا يعلم أهلي شيئا عنى. 

فكرت كثيرا فى طلب البوليس لينجدني من أسري وفكرت فى ان أشعل النار فى البيت حتى ولو احترقت معه ولكني لم أستطيع فعل ذلك بسهولة. 

 بدأت أشعر بأن لبيب مريض نفسيا ولديه مشاكل عميقة لا اعرفها خاصة عندما أجده يضعف أمامي احيانا ويبكي كالطفل عندما اهدده بالرحيل عنه إذا لم يلبي لى ما وعد به قبل زواجي منه. 

قال الرجل الحالس جوارها:

  • من الواضح ان بقصتك تفاصيل كثيرة والنَّاس حولنا تحاول ان تأخذ قسط من النوم فهل تتفضلي بالتوقف لمدة ساعتين نخلد فيهما للنوم ثم نواصل. 

نظرت اليه كارولين وقد انعكس ضوء المصباح الذي فى سقف المقعد على وجهها الذي تحول الى مجري لسيول كحل عينيها حيث كانت تبكي وهي تتحدث عن حياتها الأولى مع المهندس لبيب. 

قالت كارولين: 

عندك حق ماذنب الناس حولنا فلنكمل فى الصباح .. وتصبح على خير. 

كنّا جميعا نتابع قصة كارولين رغم اننا متعبون وانتظرنا حتي تسلل ضوء النهار من نوافذ الطائرة وبدأت تدب الحركة بين المسافرون الذين استيقظوا لتناول وجبة الافطار والذهاب الى الحمام فى تلك الطائرة الكبيرة التى تشبه المدينة الطائرة. 

استيقظت كارولين من نومها وكذلك جارها الذي كان متأهبا لسماع باقى القصة ومازال فى الرحلة سبع ساعات حتى تهبط فى نيويورك. 

قال الرجل : 

  • صباح الخير يا مدام كارولين

ردت كارولين التحية ولم تنتظر منه ان يسألها لتواصل قصتها :

أصبحت كارلا الصغيرة سجينة المهندس لبيب البخيل غريب الأطوار الذي أغلق حجرة مكتبه بحيث لا تستطيع زوجته ان تدخلها فى عدم وجوده او حتى فى وجوده وكان حريصا على ان لا تطلع على اسرار عمله او حياته السابقة قبل زواجه منها. 

حاولت كارلا ان تتصل بأهلها من تليفون المنزل فى غيابه ولكن الخدمة فى التليفون كانت لا تشمل المكالمات الدولية كما أنها لم تكن تعرف الا رقم واحد وهو رقم بيت صديقتها فاطمة وهي الوحيدة فى قريتها التى كان والدها يمتلك تليفون. 

مرت أربعة شهور على زواج كارلا التى أصبحت غاية فى الحرص أن لا تحمل من زوجها  وقد احضرت معها من مصر حبوب منع الحمل دون علمه.  كانت هذه وصية زميلتها فاطمة التى نصحتها بان لا تحاول  الإنجاب حتى تستقر حياتها، وخاصة عندما علمت ان كارلا ليست سعيدة  بهذه الزيجة وكانت قلقة جدا من رجل يكبرها فى العمر كثيرا ولا تعرف عنه شيئا يذكر الا انه مهندس ميسور الحال ويعيش فى بلد الأحلام  أمريكا. 

كانت كارلا تأمل ان يتغير لبيب مع الزمن الى الأفضل ولكنه كان  يزداد سوء كل يوم ويحاسبها على ما تأكل وتشرب فى غيابه ويذكرها بأهلها وانه انتشلها من الفقر الى هذ العالم المتحضر، رغم أنها تعيش معه حتى الآن على طعام الفقراء الذي جلبه معه من مصر. 

كانت كارلا تشاهد إعلانات المطاعم الأمريكية وتسمع عن الهمبرجر وتتمني ان تتذوقه وكلما طلبت من لبيب أن يحضر لها يوما وجبة أمريكية صاح فيها ولقنها درسا فى مساوء الطعام الأمريكي بالإضافة الى ارتفاع سعره. 

أظلمت الدنيا حول كارلا وانتابتها حالة من اليأس والإحباط بعد ان انقطعت عن الناس والعالم فى بيت رجل بخيل بلا احساس وبلا عواطف وبلا أصدقاء. 

تسرب الياس والاحباط الى اعماق كارولوين وتنازعتها الرغبة فى الخلاص من زوجها ومن هذا العالم الظالم البغيض. 

بدأت كارولين تفكر فى قتل زوجها او قتل نفسها او حرق البيت بمن فيه وظلت هذه الوساوس تلعب بأفكار كارلا ولا تغادر مخيلتها أبدا خاصة عندما كان لبيب يمارس ضغوطه وسلوكه الشائن عليها فى كل مساء. 

اتخذت كارولين قرار نهائي بالانتحار وظلت تفكر فى الوسيلة التى ستستخدمه.  كانت كارلا قد رأت فيلما مخيفا منذ أيام عن سيدة ضاقت بها الحياة فجلست فى سياراتها بالمرآب المغلق وأشعلت موتور السيارة وظلت فى مقعدها حتي اختنقت بهدوء وماتت بفعل تسرب عادم السيارة. 

شعرت كارولين بأن هذه هي أفضل وسيلة لكي تتخلص من حياتها ولكن باستخدام الغاز بدلا من عادم السيارة غير المتوفر لها. 

سيطرت فكرة الانتحار على كارولين وهي فى قمة الاكتئاب وقبل ان تقبل على الموت تذكرت أمها وأختها وميشيل وقررت ان تودعهم فكتبت رسالة الى أمها تسألها ان تغفر لها مافعلت بنفسها بعد أن شرحت لها ظروف حياتها و السجن الذي وضعها فيه زوجها وسردت بالتفصيل كل مجريات حياتها القصيرة مع لبيب. 

كانت تكتب الرسالة وهي شبه غائبه عن الوعي وتظن ان أمها ستتسلم رسالتها بالفعل ولو عبر الأثير، لم تدرك بأن اول من سيقرأ هذه الرسالة التى تركتها الى طاولة السفرة هو زوجها لبيب عندما يحضر ليجد جسدها الميت على سريره.

كتبت كارولين رسالتها الطويلة ووضعتها على طاولة السفرة ووضعت فوقها تلك الشمعة الحمراء التى طالما تحدثت لها وهي وحيدة فى هذا البيت الموحش الكئيب. 

أغلقت كارلا النوافذ البيت وذهبت الى المطبخ وفتحت الغاز دون ان  تشعل اللهب ودخلت الى سريرها وتمددت عليه وهي تنظر الى سقف الحجرة في حالة ذهول وانتظرت ان يتسلل إليها الموت  ببطء مع انتشار الغاز من المطبخ الى حجرة نومها . 

مر الوقت بطيئا على كارولين وهي مستلقية على ظهرها وقد تسمرت عينيها على سقف الحجرة  الذي بدّي لها كشاشة سينما تعرض عليها فيلم  عن تاريخ حياتها القصيرة.  استعادته ذاكرتها وهي تنتظر نهايتها وفجأة سمعت صفارات إنذار مزعجة تنطلق فى ارجاء البيت تصم الآذان. 

هبت من غفوتها ونهضت من سريرها على عجل  لتستطلع الأمر وظلت تجري هنا وهناك تبحث عن مصدر الصوت المزعج الذي صم آذانها دون جدوي. ولم تمر دقائق حتى وجدت سيارات الاطفاء ورجال يرتدون ملابس غريبة كرواد الفضاء يقتحمون عليها البيت ويكسرون الأبواب ويدخلون إليها. 

لم تعرف كارولين ان بالبيت اجهزة تحذير من الغاز تنطلق عند تسرب الغاز وتتصل بالشرطة والمطافيء الموجود فى المدينة. 

هرول رجال الاطفاء نحو كارولين وانتزعوها بسرعة من المكان وخرجوا بها خارج البيت وظلوا يبحثون عن مصدر تسرب الغاز وكارولين فى دهشة مما يحدث فقد فشلت محاولتها الانتحار لسبب لا تعرفه. 

قامت الشرطة ورجال الاطفاء بتأمين المنزل والبحث عن مكان تسريب الغاز وجمعوا كل ما وجدوه فى المنزل من أشياء يمكن استخدامها فى التحقيق عن سبب الحادث فيما بعد خاصة ان شركات التأمين تكون حريصة على كل ما يساعدها فى عدم دفع تعويضات للمتضررين.  

جري التحقيق سريعا بعد ان حضر المهندس لبيب الى قسم الشرطة لتسلم زوجته. لم تعترف كارولين امام الشرطة  انها هي من تركت صِمَام الغاز مفتوحا لكي تقتل نفسها ولكن كانت شكوك المحققين تدور حول هذه الحقيقة بعد ان تأكدوا من عدم وجود خلل فى انابيب وصمامات الغاز بالمنزل. 

كانت كارولين تتحدث بالعربية للمحققين وكان يترجم لها زوجها وظل الأمر على هذا المنوال لعدة مقابلات  بينهم مع رجال التحقيق والتي استمرت لشهر على الأقل. 

بعد شهرين من هذ الحادث حضرت الشرطة في المساء الى بيت لبيب ومعها امر بالقبض على لبيب وزوجته. لم يعرف لبيب سبب القبض عليه ولم تدرك كارولين ابعاد المشكلة ولماذا قبض عليها وكانت مندهشة لكل ما يحدث لها ولزوجها وقد وضعت الكلبشات فى يديهما ووقفا فى قفص حديدي  انتظارا للتحقيق معهما. 

بعد ثلاث ساعات من الحجز احضرهم الشرطي الى مكتب التحقيق بالقسم  وتم اخبارهم انه قد تم تكليف محامي بالعمل مع المتهمين حتى يختاروا لهم محامي فيما بعد. 

جلس الزوجين مذهولين امام المحققين ليعرفوا سبب القبض عليهما وما هو الاتهام الموجه لهما وكان الاتهام لكارولين واضح وهو محاولة الانتحار وتعريض الأمن العام للخطر بفتح صِمَام الغاز عمدا.

  اما الاتهام الموجه للبيب فكان بسبب معاملته السيئة وغير الإنسانية لزوجته مما دفعها لمحاولة الانتحار. 

جن جنون لبيب عندما سمع لائحة الاتهام له ولزوجته وقال للمحققين: 

  • من أين اتيتم بهذه الافتراءات ضدنا. 

نظر له المحقق وأخرج من الملف الذي أمامه ورقتين احداهما مكتوبة بالعربية والاخري بالانجليزية. 

كانت الورقة المكتوبة بالعربية هي الخطاب الذي كتبته كارولين لأمها تصف فيه حياتها وعذابها الذي تعيش فيه مع المهندس لبيب والذي دفعها لمحاولة الإنتحار أما الورقة الثانية فكانت الترجمة الانجليزية للخطاب. 

لم تفتح كارولين فمها بكلمة واحدة حين رأت رسالتها لأمها التى كتبتها بيدها قبل الشروع فى الانتحار والتي وجدها رجال الاطفاء على طاولة السفرة ضمن الأدلة التى جمعوها من بيت لبيب عندما دخلوا لانقاذها. 

لم يصدق لبيب ما رَآه فهذه الرسالة بخط يد كارولين دليل قاطع  ضدهما ولا يمكن ان ينكره وكان لا بد للقضية ان تأخذ مجراها وبالفعل تم إعادة الزوجين للحجز المؤقت حتى تستكمل إجراءات التحقيق.. 

كانت كارولين تسير مع حارسة السجن مذهولة لا تصدق ما حل بها وكيف تبدلت حياتها فى شهور قليلة من فتاة تمرح وتلعب فى حقول القصب بقرية على ضفاف النيل بصعيد مصر جذورها ضاربة فى اعماق التاريخ إلي نزيلة احد سجون أمريكا لا تفهم ما يدور حولها بلغتها الانجليزية المتواضعة. 

قضت كارولين ليلتها فى الحجز كالطائر الغريب الذي كسر جناحه فهبط فى مكان مظلم تتهدده فيه الكواسر وقد امتلأ قلبه بالرعب وارتجفت أوصاله وهو يتلفت حوله لا يعرف من أي جهه سيأتيه الخطر متأملا ان يأتي الصباح سريعا ليري طريقا للهروب. 

لم تعرف كارولين الصغيرة اذا كانت قد غفت ام ظلت عيونها مفتوحة حتى الصباح فلم تتكلم مع احد ولم يسألها احد شيئا فقد تجمد كل شيء فيها حتى أفكارها لم تعد قادرة على تدبير أمرها. 

وفى صباح اليوم التالي نقلت كارولين الى سجنا بعيدا دون ان تعرف شيء عن زوجها وماذا حل به. 

كان السجن المؤقت الذي انتقلت اليه كارولين يشبه استراحة حيث لم يحكم عليها بعد وكانت به سيدات أخريات لهن قضايا منظورة ولم يخرجن بكفالة بعد. وجدت كارولين فى هذا المكان نوعيات مختلفة من النساء كل لديها قضية مختلفة وبدئت لأول مرة تقترب من المجتمع الامريكي ومشاكله ولكن كان هذا السجن المؤقت افضل كثيرا من بيت زوجها لبيب. 

مرت ثلاث أسابيع على كارولين فى الحجز المؤقت وتعرفت خلال هذه الفترة على نساء من جنسيات مختلفة كانت إحداهن أمريكية من أصول عربية تعرف القليل من الكلمات العربية التى تعلمتها من أمها المهاجرة من بلد عربي  استطاعا ان يقيما بينهن حوارا مفهوما الى حد كبير وهذا ما خفف من حدة الصدمة على نفس كارولين. 

فى الساعة التاسعة والربع من صباح اليوم الأول للأسبوع الرابع  كان هناك على باب زنزانة حجزها شاب له ملامح مصرية يصاحب السجانة وهي تطلب منها الحضور الى مكتب مجاور. 

فوجئت كارلا بالشاب وهو يحدثها بالعربية :

  • ازيك يا كارولين

لم تصدق كارولين ما تسمعه فلم تسمع احد يكلمها بالمصرية منذ شهور غير زوجها لبيب ولم تسيطر على شعورها فانطلقت تبكي وتضحك فى نفس الوقت كالمجنونة واندفعت تحتضن الرجل الغريب وهي تهزي ببعض الكلمات غير المفهومة. 

طيب خاطرها الرجل وقال لها هوني على نفسك يا كارولين فستكونين بخير ان شاء الله.

 أنا احمد راضي  المحامي وقد جئت لإخراجك من هنا. 

قالت كارولين:

  • أرجوك  أرجوك أخرجني من هنا

قال: 

  • ستخرجين اليوم بكفالة بإذن الله

قالت: 

  • وما معني الكفالة

قال:

  • مبلغ من المال لضمان عودتك للمحاكمة

قالت:

  • لا أملك شيئا

قال:

  • لا تشغلي بالك فسندبر أمر دفع كفالتك. 

قالت: 

  • وكيف عرفت بوجودي يا استاذ أحمد وقد تصورت ان هذه نهايتي. 

ابتسم احمد وهو يمشي بجوارها الي المكتب المجاور  وقال لها: 

  • ستعرفين كل شيء بعد قليل ان شاء الله. 

صمتت كارولين وشعرت بالدفء والطمأنينة عندما سمعت عبارة إن شاء الله التى طالما افتقدت السماع اليها منذ ان تركت وطنها. 

جلست كارولين فى جانب من مكتب المحقق وظل احمد المحامي يملأ ويوقع على أوراق مختلفة مع المحقق ثم طلبوا منها الاقتراب والتوقيع فى أماكن مختلفة من الوثيقة دون ان تدري شيئا عن محتواها. 

انصرفت كارولين مع المحامي احمد راضي وخرجا الى سيارته حيث انطلقا على الطريق متجها بها الى بيتها وفى الطريق دار بينهما حوار طويل عما حدث لها وعن كيفية وصول هذا المحامي اليها. 

قال احمد ان قسم الشرطة اتصل بالسفارة المصرية بعد ان تأكد ان مشكلة كارولين ولبيب لها ابعاد اجتماعية قد لا يفهمها الا المصريين أنفسهم واتصلت السفارة باتحاد الأقباط المصريين فى أمريكا وهم من طلبوا من احمد المحامي متابعة الأمر لقربه من مكان الحادثة ولخبرته بهذا النوع من القضايا. 

 عادت كارولين الى بيتها لتجد زوجها لبيب فى انتظارها و كانت ملامحه مختلفة كالذي أصيب بالذهول فظل صامتا متعجبا وهو ينظر إليها. 

وجدت كارولين بيتها مختلفا وفوجئت بأنواع جديدة من الأغذية فى الثلاجة وتلك الزهور الموضوعة فى البهو لاستقبالها. شيء كثير تبدل فى البيت ولكن لبيب ظل صامتا وكأنه يقول لكارولين ماذا فعلتي بِنَا. 

ترك احمد المحامي الزوجين معا وقال لهما استمتعا بوقتكما الآن. وسأعاود الاتصال بكما غدا لأشرح لكما ماذا سأفعل لأخلصكما من هذه القضية ولكن باشروا حياتكم بصورة طبيعية ولن يمسكم ان شاء الله اي ضرر. 

أخذت المحاكمة إجراءات طويلة استمرت لعام تقريبا وخلال هذا العام رتب المحامي احمد للمهندس لبيب وزوجته العديد من الحلقات التعليمية والدورات التدريبية  فى العلاقة بين الزوجين وجمع الكثير من الأدلة على ان هناك تغير جذري حدث فى حياة الزوجين بعد تلك الحادثة. 

بعد ان أعلن القاضي المحامي انه تم استكمال عدد المحلفين واستعدادهم للقضية  حضر لبيب وزوجته ومعهم المحامي احمد راضي للجلسة الأولي للمحاكمة. 

كان المنظر مهيبا ولبيب وزوجته يجلسان فى قفص الاتهام لا يعرفان ماذا سيحل بهما وكيف ستنتهي هذه المحاكمة بعد ان سارت بهما الحياة قليلا للأفضل  بعد ان استجاب لبيب لتوفير بعض متطلبات الحياة الضرورية لزوجته. 

رأت كارلا نماذج من حياة النساء واختلطت بالمجتمع حولها وتعلمت ان تصبر على زوجها وعاداته السيئة شيئا فشيئا ولكنها لم تنسي حبها السابق أبدا بل كانت تجد فى ذكرياتها من ميشيل الملاذ الذي تهرب إليه كلما واجهت المشاكل مع زوجها وظل طيف ميشيل يصاحبها حتى وهي تختلي بزوجها. 

دخل القاضي قاعة المحكمة ووقف الجميع احتراما له وقد جلس هناك فى ركن من القاعة خمس عشرة من النساء والرجال يسمون بالمحلفين قد تم اختيارهم بعناية وسرية تامة وعرضت عليهم القضية وهم من سيحددون اذا كان المتهمين مذنبين أو لا وعلى القاضي ان يقرر العقاب ومدته فى حالة كان المتهم مذنب. 

كان المحلفين ينظرون بإهتما الى لبيب وكارولين ذوي الملامح المصرية الصميمة وكأنهم يشاهدون مقطع من فيلم كليوباترا او المومياء الذي عرض كثيرا على شاشات التلفزيون الامريكي. 

بدأت النيابة بتوجيه الاتهام  الى لبيب وزوجته وهما يجلسان بجوار محاميهم احمد راضي فقال وكيل النيابه مشير إليهما  :

  • حضرات المحلفين أنظروا الى تلك الوجوه التى تبدوا وديعة ممتلئة بالخوف والتوجس من القادم .  أنظروا الى تلك السيدة التى لم تهاب الموت بل عرضت من حولها للموت معها دون وازع من ضمير وانظروا لزوجها السيد لبيب الذي كان سببا فى هذه الجريمة بسلوكه المتعمد لقهر زوجته. 
  • انها أيها المحترمون وجوه لمجرمين يجيدون التمثيل املا فى الهروب من جريمتيهماث. 
  • هذا الرجل الذي يعمل مهندسا لم يحترم حقوق الزوجية ولم يحترم القوانين الامريكية رغم انه مواطن أمريكي يعيش فى هذه البلد لسنوات طويلة. فقد جرد زوجته من كل متطلبات الحياة الكريمة بسبب بخله وتعسفه مما دفعها لمحاولة الانتحار فلا أقل من ان يسجن عقابا على مافعل نحو زوجته. 
  • اما هذه السيدة صغيرة السن التى تبدوا لكم ضعيفة خائفة وتريد ان تقول لكم انها ضحية لزوجها فقد ارتكبت عملا شنيعا بمحاولتها قتل نفسها ولم تفكر عندما اختارت طريقة الانتحار فى الضرر الذي قد تحدثه للآخرين وكان من الممكن ان ينفجر البيت اذا اشتعل الغاز وينتقل الحريق للآمنين حولها والقانون يعاقب كل من يعرض حياة الآخرين للخطر آو الموت. 
  • لهذا كله أطلب من حضراتكم ان تنظروا فى القضية بعين القانون وان يلقى المتهمين عقابا صارما لما اقترفوه من جرائم يعاقب عليه القانون الامريكي حتي يكونوا عبرة للآخرين. 

صمتت القاعة وكان الجميع ينظر صاغرا للمتهمين بينما كانت كارولين عاجزة عن متابعة ما يقال ولا تفهم ماذا يدور بالضبط. 

كسر القاضى الصمت بأن طلب من الدفاع التقدم بدفاعه. 

وقف المحامي احمد راضي وأشار الى المحلفين قائلا:  

  • انظروا أيها  المحترمين للمتهمين جيدا ودققوا النظر في وجههما .. الم تلاحظوا … شيئا مهما .. الم تلاحظوا أنهما يحملان نفس الملامح المصرية رغم اختلافهما فى الجنس والعمر. 
  • نعم أيها السادة .. كل المصرين حتى ولو اختلفوا فى الجنس والعمر والدين يحملون ملامح مشتركة.  فهذه الملامح شكلها تاريخهم القديم وصقلتها حضاراتهم الضاربة فى اعماق التاريخ واصبح كل مصري يولد وهو يحمل معه إرثا ثقيلا من العادات والتقاليد لا يتغير بسهولة مهما انتقل من بلد الى بلد او اختلط بحضارات أخري. 

قاطع وكيل النيابة المحامي قائلا: 

  • ما علاقة ذلك بالقضية فلتدخل فى صلب الموضوع. 

ضرب القاضى بمطرقته على الطاولة وأمر النيابة الا تقاطع المحامي وطلبت من الدفاع ان يكمل دفاعه 

كان المحلفين يسمعون لأحمد باهتمام شديد خاصة عندما تكلم عن تاريخ مصر وعلاقته بالمتهمين فلمصر وتاريخها سحر عجيب يأخذ بخلد الأمريكان  والاوربيين على السواء. 

عاد احمد ليكمل دفاعه بعد ان أيده القاضى وقال:

  • سيادة القاضى والسادة والسيدات المحلفين .. لبيب وكارولين مصريين قبطيين مهاجرين من مصر كل منهما جاء بموروثه وعاداته وتقاليده الى مجتمع جديد ورغم ان المهندس لبيب عاش فى أمريكا لسنوات طويلة قبل ان يتزوج بكارولين فقد اختار لنفسه العزلة وعاش بموروثه القديم حتى أتت كارولين الشابة المتطلعة واصطدمت بسلوكيات زوجها التى لم يقصد بسلوكه معها إهانتها او الاخلال بمتطلباتها الانسانية أبدا وظن ان أسلوبه فى الحياة الذي تربي ونشأ عليه هو الأفضل لحياتهما الزوجية.  
  • اما كارولين فعندما فكرت فى الانتحار فلم يكن لها الا هدف واحد وهو ان تنهي حياتها التى ظنت انها بائسة مع لبيب ولم تفكر أبدا بل لم يكن لديها فكرة أصلا ان ما تفعله سيضر بالآخرين ولو كانت قد أشعلت النار فى البيت لاتهمناها بأنها قصدت الأضرار بالآخرين وبزوجها ولكنها اختارت الوسيلة التى لا تضر الا بنفسها. 

وتعرفون  أيها السادة أنه قد مر عام على هذه الحادثة وأبشركم انه قد حدثت تغيرات إيجابية عظيمة فى حياة الزوجين فى هذا العام، فقد تبدل الكثير في حياتهما للافضل واستطاع لبيب وكارولين العودة لحياة زوجية هانئة بعد ان مرا بنجاح بعدد من دروس وحلقات وورش عمل التأهيل للحياة الزوجية السعيدة واجتيازها بنجاح، وأقدم لحضراتكم ما يثبت ذلك وهو اربع شهادات تخرج من هذه الدورات. 

اخرج المحامي أحمد شهادات لبيب وكارولين ووضعها امام القاضي ليفحصها. 

عاود احمد الدفاع قائلا : 

  • هل من المفروض ان نعاقب زوجين سارا في بداية حياتهما فى طريق وعر دون قصد ثم استدركا اخطائها وعادا للطريق السليم ام نعطي لهم الفرصة لكي يستمروا فى حياتهم الجديدة ليبنوا أسرتهم بسلام.  
  • الأمر متروك لكم أيها السادة ” مشيرا للمحلفين” وانا واثق من حسن تقديركم. 

رفع القاضى الجلسة لسماع رأي المحلفين قبل تقدير الحكم  وظل الجميع منتظرين رأي المحلفين لأكثر من ساعة. 

دخل المحلفين الى القاعة وجلسوا فى مقاعدهم والجميع فى القاعة بما فيهم القاضى فى صمت مطبق ويكاد لبيب وكارولين ان تذوب عظامهما من الخوف انتظارا لقرار المحلفين. 

وقف ممثل المحلفين وقال القاضى ان المحلفين وصلوا لقرار جماعي  نهائي فى القضية وسلم للحارس ورقه بها قرار المحلفين الذي سلمها بدوره للقاضي.  

 لم تستمر فترة الانتظار طويلا  حيث توصل المحلفين الى قرار جماعي ببراءة المتهمين ولكن القاضي أصر على تتم متابعة الزوجين لمدة عام من قبل جمعية اجتماعية للتأكد من ان حياتهما تسير فى الطريق السليم. 

خضع لبيب لطلب زوجته بان تلتحق بالجامعة والتحقت بالفعل بالجامعة لتكمل دراستها فى كلية التجارة   تخرجت كارولين بعد عامين من الدراسة في كلية التجارة والتحقت بالعمل في احد البنوك. 

تقول كارولين ان حياتها بدأت تتغير ولكن لبيب لم يتغير كثيرا وظل على بخله المعتاد الا ان كارولين بدأت تستقل عنه ماديا وتحقق رغباتها الشخصية بحرية وزادت الفجوة بينهما مع الزمن وأصبح البيت مجرد مكان يجمعهم فى المساء وكل يستقل عن الآخر فى حياته بشكل كامل تقريبا. 

أدمنت كارولين العمل مثل زوجها وترقت فى المناصب وأصبحت حياتها الاسرية فى حكم العدم، ولكن طيف ميشيل وأيام الحب الأولي لم تغادر مخيلتها أبدا وكانت ذكريات الحب الجميلة الذكري الوحيدة الباقية فى مخيلتها من ذكريات مصر بعد ان توفت أمها وتزوجت اختها الصغيرة وأنجبت خمسة من الأطفال. 

تدهورت صحة لبيب بعد ان وصل الستين من العمر وتقاعد من العمل وأصيب لاحقا بمرض فقدان الذاكرة ولكنه لم ينسي ان يكتب وصيته بأن يتم دفنه في مقابر اسرته بمصر. 

عن Mohamed El Meleigi

Professor of Plant Pathology and Microbiology Worked at University Alexandria Egypt, North Dakota State University, University of Kentucky, Kansas State University, king Saud University, Qassim University

اقرأ ايضاً

نفوس أسيرة -١٣- مصطفي

ذهب مصطفى إلى حجرته وأحضر مفكرة سميكة قديمة وضعت داخل مظروف أصفر متهالك من مظاريف …

Leave a Reply