الرئيسية / الأدب / نفوس أسيرة -٢

نفوس أسيرة -٢

كانت الزيارات للنزلاء مفتوحة يوم الجمعة والأحد من كل أسبوع وكان يوم الأحد اليوم هو الأكثر نشاطا حيث يأتي فيه غالبية اقرباء وأصدقاء النزلاء لزيارتهم وكان يوم ينتظره معظم النزلاء فينعم البعض بزيارة ذويه بينما تكون الزيارات شحيحة أو معدومة للبعض الآخر منهم بعد ان تركهم ذويهم ليواجهوا وحدهم النهاية. ينتظر المسنين يوم الأحد بفارغ الصبر ليأتي إليهم الابن والابنة والأحفاد لزيارتهم ولكن الكثير منهم يخيب أملهم ويبتلعون قهرهم ويظلون أسبوعا آخر ينتظرون من يتذكرهم وهم  يراجعون أنفسهم عن عمر قضوه وبيت بنوه وطفل ربوه واليوم نسيه الجميع وتركوه. 

كان نزيل الدار الدكتور إسماعيل أستاذا مشهورا فى علم النبات بكلية العلوم جامعة الإسكندرية ودرًس للكثير من الطلاب والطالبات وخرًج العشرات من حَملة الماجستير والدكتوراه عندما كان فى قمة نشاطه العلمي والبحثي وتذخر المكتبات بمؤلفاته الهامة واليوم هو هنا نزيل من نزلاء دار الوفاء لا يعرف عنه أحد شيئا.

منذ عامين توقف تاكسي على باب دار الوفاء وترجل منه رجلا مسن يمشي بصعوبة. خرج سائق التاكسي من سيارته ليأخذ بيده للوصول إلى باب الدار ولكن الدكتور إسماعيل أبى أن يساعده أحد وأشار للسائق بأن يخرج حقائبه فقط ويتركه يتكأ على عصاه ليصل إلى الباب الدار المغلق.

أخرج السائق من السيارة حقيبته جلدية كبيرة وصندوقين كبيرين من الكرتون الملصق جيدا بشريط أزرق اللون وكانت الصناديق ثقيلة على غير العادة فوضعها السائق أمام باب الدار وهو فى غاية الامتعاض وانطلق عائدا بسيارته. 

ضغط الرجل المسن على ذِر الباب المختفى خلف أغصان الشجر وبعد دقائق فتحت البوابة العتيقة وكان الصًرير الصادر من البوابة يشعرك بالخوف والتوجس وكاد الرجل المسن أن يسقط من اندفاع الرياح الآتية من داخل المبني مع فتح البوابة الكبيرة لولا أنه انحرف جانبا وتشبث  بعصاه وقبعته حتى لا تطير. 

وجد حارس البوابة رجلا مسنا يرتدي نظاراة  سميكة معتمة و بدله ثقيلة رمادية اللون مُقلًمة ويضع على رأسه قبعة مثل التي يرتديها الخواجات ويلف رقبته بكوفية من الصوف الأزرق المخملي وكأننا فى عز الشتاء رغم أننا فى شهر مايو ورغم أناقة الرجل إلا ان كل شيء فيه كان قديما وكأنه خارج من صفحات كتاب تاريخ قديم أو بطل من ابطال مسرحيات شكسبير. 

نظر الحارس للرجل وأمتعته التي بجواره وتحت قدميه وقال:

– ماذا تريد يا سيدي
قال الرجل:

– أريد أن أسكن لديكم

ضحك الحارس وقال:

السكن لدينا يا سيدي بالحجز وليس كل من يريد السكن يأتي هكذا.

قال الرجل:

-هل أنت المدير.

ابتسم الحارس وقال:

– لا يا أستاذ أنا قناوي الحارس.

قال الرجل:

– من فضلك أجلسني يا قناوي وآتي لي بالمدير فأنا لا أستطيع الوقوف كثيرا.

دهش الحارس لكلام الرجل المسن وأدخله من الباب وحمل أشياءه للداخل ثم صحبه إلى مكتب الاستقبال.

كانت المشرفة على الدار تجلس فى مكتبها عندما دخل عليها الرجل المسن فى صحبة الحارس فقالت له:

أهلا يا والدي هل نستطيع خدمتك

 قال الرجل:

أنا الدكتور اسماعيل حافظ

نظرت إليه السيدة مندهشة فلم يكن هذا الاسم غريب على مسامعها فهذا الرجل حُجِزت له حُجرة منذ خمسة شهور ويُدفع آخرون أجرها باليورو دون أن يشغلها أحد بعد.

قالت السيدة: 

لقد حاولنا الاتصال بك مرارا وتكرارا يا دكتور إسماعيل 

نظر إليها الدكتور اسماعيل ولم يجيب 

قالت: على كل حال أهلا بك ولولا اصرار من حجزوا لك الحجرة وتأكيدهم أنك ستأتي ما بقيت الحجرة حتى الآن.

قال الدكتور اسماعيل:

– كل شيء بأوان وشكرا لحفظ مكان لى لديكم.

بحثت السيدة فى ملفات النزلاء والمتقدمين للعيش فى دار الوفاء ووجدت اسم الدكتور اسماعيل بسهولة فحجرته محجوزة منذ خمسة شهور ومدفوعة الأجر مقدما لعام كامل. 

أخذت المشرفة الدكتور اسماعيل الى حجرته فى الطابق الأرضى وكانت نافذتها تطل على الحديقة التى تتوسط الدار وتم عمل الإجراءات المعتادة لاستقبال النزلاء معه حتي استقر فى حجرته.

بعد العشاء قام مشرف الدار بتقديم الدكتور اسماعيل للجميع وكان معظمهم فى مثل عمره أو أقل قليلا ولكنهم لا يعرفون عنه شيئا من قبل. حيا الدكتور اسماعيل الجميع بأن رفع لهم قبعته وجلس دون ان ينطق بكلمة واحدة.

ظل الدكتور اسماعيل صامتا لأيام ينظر الى كل من حوله من الناس باستغراب ولا يجد فيهم من يمكن أن يصادقه أو يتحدث معه فكان منطويا لا يتكلم مع أحدا ولا ينجذب لنداء وسائل التسلية العديدة حوله ولكنه كان لا يكف عن القراءة فى كتبه التى جلبها معها الى الدار.

كان أيضا لا يمل من السير بين الأشجار والعبث بأزهارها وأوراقها ويقضي وقتا طويلا يتفحص تلك الأشجار والأوراق والأزهار والنباتات الصغيرة ويضعها أمامه غير مباليا بمن حوله ثم يندمج فى رسمها بقلمه الرصاص والجميع يمر به ليلقى نظرة على رسمه الجميل بتفاصيله الدقيقة.

ولكنه كما يبدوا كان يبذل مجهودا كبيرا فى تذكر بعض المعلومات عنها دون جدوى وظهرت أمامه الأشجار والنباتات التى قضى عمره معها أحيانا كأطياف من عالم آخر لا يتذكر أنه التقى بها من قبل رغم أن دقات قلبه المنهك كانت تتسارع وتبتهج نفسه لرؤيتها. 

عاش الدكتور اسماعيل فى عالمه الجديد الضيق وحاول التكيف مع حجرته الصغيرة واتخذ من سريره مكانا جديدا ليقرأ ومن نافذته بوابة يطل منها على عالم النباتات الذى عاش فيه ولم يعد يذكر عنه إلا القليل، فقد اختلطت لديه الأسماء والأنواع واختلط المذكر بالمؤنث وذابت الفروق بين الأجناس النباتية.

مرت عليه السيدة راوية نزيلة الدار من قبله بسنوات وهو يرسم فى زهرة من أزهار الحديقة وبدون ارادة وجدت نفسها تجلس فى المقعد المجاور له وهي تدقق فى رسومه دون اكتراث منه حتى انتهي من رسمه فصفقت له وقالت:

– أنت مبدع يا أستاذ.

التفت الرجل نحوها وأبتسم لأول مرة قائلا:

– أشكرك يا مدام.

قالت راوية:

– أنت فنان يا دكتور ولابد أن نقيم لك معرضا لعرض رسومك الجميلة فى الدار.

ابتسم الدكتور اسماعيل ابتسامة أكبر من سابقتها وقال لها:

– معرض لى…  لا .. أشكرك فلست بهذه الأهمية.

قالت راوية:

– بالعكس فهذه فكرة طيبة ولكن سنحتاج لرسوم اكثر.

كانت هذه أول مرة يخاطب فيها الدكتور اسماعيل أحدا فى دار الوفاء وأصبحت مدام راوية من هذا اليوم الشخص الوحيد الذى يتفاعل مع الدكتور اسماعيل وهي الوحيدة فى هذه الدار التي تستطيع أن تجلس وتتحدث معه والتى كان هذا الرجل يفتح قلبه لها بين الحين والآخر ليقص عليها القليل مما يتذكره عن حياته. 

كان الدكتور اسماعيل يضع أمامه بعض من كتبه ومقتنياته القديمة ويسعد بوجود راوية جواره فيعوض عجزه عن الكلام بطلاقة معها بأن يتصفح كتبه معها ويشير بإصبعه الى أشكال النباتات التى نسى اسمها ووظيفتها وهو الأستاذ القديم الذي عاش حياة حافلة بالعلم والسفر ولكن للأسف انتهي كل شيء الآن ورست سفينته بعد أن فرغت من محتواها بدار الوفاء للمسنين. 

استطاعت راوية أن تعرف القليل عن حياة الدكتور اسماعيل عندما رأت ألبوما للصور يحتفظ به ورأت انفعالاته وهو يتصفح الألبوم  فيتهلل فرحا ثم تدمع عيناه  ثم يكتئب قليلا ثم يعود للابتسام وهو يمر بصور الألبوم التي تشير إلى أنه على ما يبدو تزوج في شبابه من  سيدة أجنبية وأنجب منها طفلين وعاشت الأسرة حياة سعيدة فى بلد أجنبي ثم توقفت حياة الأسرة فجأة. 

لم تكتمل صور الألبوم لتبين ماذا جري لأولاده وزوجته بعد ذلك  ولكن راوية استخلصت بأن قصة عائلته السعيدة انتهت باستحواذ الزوجة الأجنبية على الأطفال لتعيش بهم فى الخارج ليعيش الدكتور اسماعيل حياته وحيدا فى مصر بلا زوجة وبلا أطفال. 

هكذا قصت راوية لرفيقتيها قصة الدكتور اسماعيل كما تصورتها من خلال الصور ولكن لا أحد يعرف الحقيقة فلا الرجل يتكلم ولا يزوره أحد ولكن الذين يدفعون أجر سكنه فى الدار يحولون المبالغ من بلد أجنبي ويحملون نفس اسم الدكتور إسماعيل أي انهم حتما أولاده. 

كانت راوية تتخذ من الدكتور اسماعيل مادة لقصصها التى تنسجها حوله أحيانا وكانت ترسم سيناريوهات عديدة لحياته فهي الوحيدة التى كان يأنس إليها ويتكلم معها بكلمات لا تحمل معني أحيانا ولكن راوية كانت تجيد نسج القصص.

ظل الدكتور اسماعيل يتقن شيئا واحدا رغم إصابته بالزهيمر أو مرض النسيان وهو رسم النباتات والأزهار ومع الزمن تاهت من رأس دكتور اسماعيل الأماكن ونسي تدريجيا الأصدقاء والأبناء وتلك الزوجة الأجنبية التى تزوجها يوما ما فى كنيسة ألمانية وأنجب منها أطفالا لم يعد يتذكرعددهم أو اسمائهم ولا أين ذهبوا. 

إنه مرض الزهيمر الذى يمحوا ذاكرة الإنسان وكأنها لم تكن فيجرد المريض تدريجيا من ذكرياته وقدراته حتى يتحول الى كتلة ساكنة من المادة لا تري ولا  تسمع ولا تشم ولا تحسن الكلام وكان الدكتور اسماعيل ضحية هذا المرض الذى يسير به الى نهاية محتومة.

دأبت إدارة الدار على تنظيم رحلة اسبوعية فى مدينة الإسكندرية للراغبين من النزلاء فى التنزه فتأخذهم فى نزهة الى البحر وقلعة قايتباي والمنتزه ليقضوا بعض الساعات فى الهواء الطلق ويختلطون بالناس والحياة العامة. وكان شيئا عجيبا أن يرفض البعض الذهاب فى هذه الرحلات الأسبوعية وكأنهم يئسوا من هذه الحياة وهذا المجتمع وأصبحت كل أمنيتهم أن يعيشون فى هدوء بعيدا عن كل شيء يذكرهم بماضيهم.

كان الدكتور اسماعيل من هؤلاء فيرفض الذهاب فى تلك الرحلات إلا فى صحبة راوية، وفى أحد الأيام خرج الدكتور اسماعيل مع أحد هذه الرحلات دون راوية التى تحرص عليه وترافقه دائما اينما ذهب ولكنه فى هذه الرحلة على ما يبدو نسي راوية وقرر بلا إرادة مرافقة الرحلة. 

صعد الدكتور اسماعيل الى الحافلة  متأنقا كعادته واختار مقعدا فى المنتصف جوار النافذة وكان سعيدا بالنظر الى معالم المدينة متجها من الشاطبي إلى منطقة الأنفوشي وكأنه يري الإسكندرية وهذه المباني وهؤلاء البشر من المارة لأول مرة. 

كان الدكتور اسماعيل يسبح فى فضاء خاص به لا يشاركه فيه أحدا ممن حوله رغم ابتساماته المتكررة لكل من يحدثه أو يبادله النظر. لم يكن قادرا على التواصل مع أحد غير راوية التى نساها أيضا فى هذه الرحلة.

توقفت الحافلة عند قلعة قايتباي وبدأ الجميع الترجل من الحافلة لتنزه على الشاطئ وزيارة القلعة ولكن الدكتور اسماعيل رفض النزول وفهمت المشرفة أنه يريد أن يستمتع بوقته بالبقاء فى الحافلة والجلوس فى مقعده المطل على البحر. تركه الجميع حتى السائق ترك الحافلة ليحتسي الشاي على رصيف البحر فى الهواء الطلق.

بعد ساعتين من مغادرة الركاب للحافلة وبعد أن انتهوا من جولتهم السياحية بالشاطئ وقلعة قايتباي عاد الجميع لركوب الحافلة استعدادا للعودة الى دار الوفاء. وجد الجميع مقعد الدكتور إسماعيل خاليا !

صاحت المشرفة فى السائق تسأله أين الدكتور اسماعيل ولكن السائق هز رأسه نافيا أنه رآه يخرج أو يدخل من باب الحافلة.

ضج الجميع من اختفاء الرجل فقد اختفى الدكتور اسماعيل من الحافلة وسط دهشة الجميع ولم يراه أحد وهو يتسلل خارجها. أنتشر معظم القادرين على السير من رفاقه يبحثون عن الرجل فى كل الأماكن القريبة المحيطة بالحافلة وبالقلعة ولكن بعد اكثر من ساعة من البحث تبخر أملهم فى العثور عليه.

نلتقي في الحلقة الثالثة.

محمد المليجي

عن Mohamed El Meleigi

Professor of Plant Pathology and Microbiology Worked at University Alexandria Egypt, North Dakota State University, University of Kentucky, Kansas State University, king Saud University, Qassim University

اقرأ ايضاً

كبار السن، senior citizens

خواطر مسن

عندما نكبر في العمر نصبح أشخاصا مختلفين، تهدأ فينا الغرائز ويبقي العقل وتتأصل الحكمة، وتبطأ …

Leave a Reply