الرئيسية / الأدب / ام صابر

ام صابر

أم صابر

قابلت بالمسجد أحد المصريين المهاجرين إلى أمريكا، وكان اسمه صابر، ويعمل فى أحد أفران المخبوزات هناك، كان وجهه يحمل طيبة عوام شعب مصر، وعندما عرف أننى عائد إلى الإسكندرية، طلب منى أن أقوم بتوصيل مبلغ ألف دولار إلى والدته، وأوصانى أن أعطيها المبلغ فى يدها مباشرة عَدًا ونقدًا، ولا أسلمه لأحد من إخوته، وأن أطمئنه عليها ولو فى رسالة.

أمام سؤال الرجل وبساطة حاله-التى تظهر من شكله وأسلوبه فى الكلام والمبلغ المرسل إلى والدته- قررت حمل المسئولية، رغم أن زيارتى إلى الإسكندرية ستكون ليومين فقط.

فى اليوم الثانى لوصولى إلى الإسكندرية اتصلت بتليفون أم صابر ولكنها لم ترد، ولعلمى من إبنها أنها مريضة دائما ولا تغادر البيت، قررت الذهاب إلى العنوان لإنجاز المهمة، كان العنوان فى أحد الأحياء الشعبية، ووجدت صعوبة فى السير خلاله بالسيارة نظرا لغلق معظم الشوارع والحارات بالباعة الجائلين وأصحاب الحرف.

تركت سيارتى أمام محل، بعد أن أوصيت عليها صاحبَهُ ودفعت له-مقدما-مبلغا سخيا حتى لا أعود ولا أجد السيارة أو بعض أجزائها، وسألته عن عنوان أم صابر، فدلنى على العنوان بسهولة، حيث يعرف الناس بعضهم بعضا فى هذه الأحياء، خصوصا أم صابر التى لها ابن فى أمريكا.

كانت أم صابر تسكن عمارة جديدة من العمارات المخالفة النحيفة العارية من المحارة، والتى تتحدى العالم والقانون وتنطلق كالصاروخ فى فضاء الحي دونا عن باقى البيوت المجاورة.

وجدت نفسي أمام باب العمارة المتميزة بالحى، وبحثت فى ظلام المدخل العجيب عن المصعد ليصل بى الى الدور العاشر حيث تقطن أم صابر، ولكن-للأسف-كان التيار الكهربائى مقطوعا، وكان لا بد من الصعود على القدمين حاملا الأمانة لصاحبتها، وكان السلم المظلم مثل سراديب الرعب التى يدفع الناس نقودا ليرتادوها فى الملاهى بلندن، وغيرها، حيث تفاجئك أرواح نازلة من السلم من طوابق العمارة الستة عشر، حيث تسمع حركة نزول بعضهم بينما البعض تفاجئك لمسة يده وهو يمر صاعدا أو نازلا فى سكون تام.

جفت الدماء فى عروقى صعودا، لكننى تماسكت، وانتهى فاصل الرعب الطويل بعد أن وصلت إلى الدور العاشر، ووقفت أمام باب شقة أم صابر ألتقط أنفاسى بعد أن كاد قلبى ينفجر من سرعة النبض وارتفع ضغطى أكثرمن ارتفاع طوابق العمارة.

طرقت الباب وبعد دقيقتين فتح لى شاب الباب يشبه صابر تماما، لكنه أصغر سنا إلا أنه ضعف حجمه تقريبا، يلبس بنطلون بيجامة قصير وفانلة حمراء بحمالات، وقف متسمرا أمامى متوجسا من ملامح وجهي فى ظلام المدخل وقال:

– مين حضرتك؟ ومن تريد؟

 قلت:

– أنا صديق أخيك صابر بأمريكا، ولدىّ رسالة منه لوالدتك.

رحب بى الشاب وأدخلنى إلى حجرة الاستقبال، وقد عجبت لصغر الحجرات فى هذه العمارات، فكانت حجرة الاستقبال عملية جدا وتقرب الناس من بعضهم، فأنت تجلس وتكاد قدماك تلمس قدمىّ الجالس فى المقعد الذي أمامك، ولا مسافة إلا لطاولة صغيرة بين المقاعد.

انتظرت عشر دقائق فى حجرة الاستقبال المتواضعة، حتى حضر أحمد وإبراهيم شقيقا صابر، ثم أتت دلال والتى قدمت لنا الشاى، وجلسوا يسألون عن صابر وأحواله ومتى سيزور مصر، وأنا لا أعرف شيئا بالمرة عن صابر ولا أحواله، فقد قابلته مرة واحدة فى أحد مساجد نيوجيرسى، طمأنتهم عليه وسألت عن والدتهم.

نظر الجميع إلى بعضهم، ثم قال أحمد كبيرهم:

– الوالدة مريضة ولا تغادر حجرة نومها.

 قلت:

– هل من الممكن رؤيتها حسب طلب صابر؟

قالت دلال:

– أهلا وسهلا. خمس دقائق وحضرتك تتفضل.

مرت عشرة دقائق أخرى وأتت دلال لتصحبنا إلى حجرة الأم، والتى لا تسع إلا سريرها وطاولة صغيرة رُصَّت عليها أصناف من الدواء، وكانت أم صابر التى تجلس على السرير بدينة سمحة الوجه، رحبت بى وسألت عن صابر، وطمأنتها عليه، ثم أعطيتها الألف دولار-حسب وصية صابر-وكانت دلال شاهدة على التسليم، بينما لم تتسع الحجرة لوجود ولديها اللذين بقيا فى الخارج.

هممت بالخروج وتوديع أم صابر، ولكنها أصرت على أن أنتظر بعض الوقت.

سألتنى:

– كم هذا المبلغ يا بنى؟

قلت:

– ألف دولار.

قالت:

– كام جنيه يعنى؟

قالت دلال:

– حوالي ٧ آلاف جنيه تقريبا يا ماما.

قالت:

– كتر خيرك يا صابر دايما فاكر أمك، وفجأة وجدت أم صابر الوديعة تصيح صيحة زلزلتنى. وقالت:

– ودونى. ودونى. ماتمشيش يا أستاذ إلا لما تودينى!

دخل أولادها الرجلان إلى الحجرة على صوت أمهما، وانحشرنا جميعا حول سرير أم صابر التى كانت تكرر نفس العبارة دون أن أفهم شيئا من الموضوع، ولكن دلال أوضحت لى الموقف، فأمها تريد الذهاب إلى دكتور القلب الذي تزوره كلما توفر معها مبلغ من المال.

بدأت أم صابر تفقد وعيها ثم تفيق، ولا أعرف ماذا أفعل ولكنها فى لحظات إفاقة طلبت من أولادها الخروج من القاعة، وبقيتُ معها لتهمس لى وهي بكامل وعيها وكأنها كانت تتصنع فقدان الوعي: -ودينى يا أستاذ للدكتور قبل ما ولاد الكلب دول يأكلوا بالفلوس لحمة! أنا عايزة أشوف صحتى الأول والباقى ياخدوه.

قلت لنفسى الله يجازيك ياصابر، وأنا كان مالى ومال أمك؟ ولكن لم أستطع إلا أن أوافقها وهي تتوسل إلى، خرجت إلى أبنائها وقلت لهم:

– لازم والدتكم تزور الدكتور.

 فقال أحمد:

– يا أستاذ إنها مثل الحصان وماشية على دواء القلب كويس بس هى بتتدلع!

سمعت أم صابر الحوار عن بُعد، وانطلق صوتها تسب أولادها وتتهمهم بأنهم يريدونها أن تموت من أجل الحصول على معاش أبيهم.

مال عليا إبراهيم وسألنى: 

– معك عربية يا أستاذ؟

قلت:

– نعم.

قال:

– خلاص ممكن توصلنا للدكتور.

قلت:

– هل ستذهبون إلى محطة الرمل؟

قال: رمل إيه يا أستاذ دول هناك دكاترة حراميه ماحناش قدهم، الدكتور بتاعتنا هنا قريب بعد شارعين.

حمدت الله على قصر المشوار ولكنى تذكرت انقطاع التيار الكهربائى وصعوبة إنزال أم صابر البدينة من الدور العاشر، ولكن ابنها إبراهيم قال: -اطمئن يا استاذ سنتصرف.

خرج إبراهيم إلى نافذة الشقة، وقام بعمل إشارات لبعض الجالسين على القهوة بالشارع أمام العمارة المقابلة، وإذ بأكثر من عشرة من شباب ورجال الحي يحضرون فورا لحمل أم صابر لسيارتى فى زفة تجمع حولها كل أهل الحي، البعض يدعى لها بالشفاء والبعض يضحك ويعلق بتسلم الأيادى، وكانت موتسيكلات الشباب بموسيقاها المزعجة تشارك فى زفة أم صابر إلى حيث تقف سيارتى.

تم حشر أم صابر فى سيارتى الصغيرة وبجوارها دلال، ثم ركب جوارى أحمد وتحركنا لمسافة ليست بعيدة، وكنت أستغرب أن ابنها إبراهيم والكثير من الشباب يجرون خلفنا ونحن نسير ببطء لزحمة الشارع.

قال أحمد:

– خلاص يا أستاذ. وَقّف هنا.

وإذ بالشباب الذي كان يجرى خلفنا يأتى لإنزال وحمل أم صابر إلى عيادة دكتور القلب المنشود، والحمد لله أن عيادته كانت فى الدور الثالث فقط.

دخلت العيادة، وإذ بى أمام كارثة طبية، فالمكان قذر وملوث بالأتربة وسرير الكشف لم تغسل أغطيته منذ شهور، وكل الأدوات يعلوها الصدأ، والتمرجى يرتدى بالطو أبيض بلون الأرض، وقد اسودت أسنانه وشفتاه من التدخين، وكان أول سؤال هو:

– معاكم فلوس؟

 فرد أحمد:

– طبعا، أمال جايين نشحت؟!

فردت دلال:

– معانا دولارات. تنفع؟

 قال التمرجى:

– خلينى أسأل الدكتور.

 ودخل للدكتور وخرج ومعه الدكتورالذى تهلل وجهه فرحا بعدما شم رائحة الدولارات، وكان الدكتور ليس أفضل كثيرا من التمرجى.

فوجئ الدكتور بوجودى مع أم صابر التى اعتادت الحضور إليه مع أبنائها فقط، وبادرنى بالسؤال:

– هل أنت قريب لأم صابر؟

قلت:

– لا أنا مجرد صديق لابنها فى أمريكا.

قال:

– سيادتك بقي عايش هناك؟

قلت:

– بعض الوقت فقط.

قال:

– يا بختكم يا عم. إحنا عايشين فى الهم ده على طول.

سألت الدكتور:

– ما هى مشكلة أم صابر؟

قال هامسا:

– والله مانا عارف بالضبط. ضغط وسكر وقلب وفيروس سى. يعنى مجمع للأمراض.

قلت:

– وكيف تعالجها؟

قال:

– بنأسترها لو محتاجة لأسترة مع شوية أدوية تسلك الفوانى وتروق الدم وتمشى الحال.

قلت فى نفسي أهذا طبيب أم سمكرى بوابير الجاز؟

استدار الطبيب لأم صابر وسألها:

– معاكى كام دولار يا حاجة؟

قالت:

– إنت عايز كام؟

قال:

– ما هو على قد ما تدفعى ح نعمل لك العَمرة، لو عايزة زى المرة اللى فاتت يبقى ١٠٠دولار، عايزة أكتر حنأسترك، وهذا ٣٠٠ دولار أخرى وعلى مزاجك.

قالت:

– زى المرة اللى فاتت بس اوصف لى دواء أرخص شوية لأن الأدوية أسعارها ولعت.

قال:

– ماشى. فين الفلوس؟

عدت دلال خمس ورقات بـ ٢٠ دولار للدكتور الذي جلس يفحص الدولارات خوفا من المزيف، وبعد أن اطمأن على فلوسه دخلت ام صابر حجرة الكشف التعيسة ومعها ابنتها دلال.

جلستُ مع ابنها فى الاستقبال على كراسٍ قذرة، ننتظر لساعة خروج أم صابر من العَٓمرة، وكانت زوجتى تتابعنى كل ربع ساعة بالتليفون تطلب منى ترك المهمة والخروج من هذا الحي التعيس، ولكن كان من الصعب الانسحاب من مهمة إنقاذ أم صابر وتحقيق وصية ابنها.

انتهى الدكتور من فحص أم صابر وعمل رسم قلب لها وكتب الروشته وانتهت العمرة التى يتحدث عنها بلغة الميكانيكية والسمكرية، وبقيت مهمة إنزال أم صابر من الدور الثالث الى سيارتى وقد غادر شباب الحي المكان. ولكن ابنها والتمرجى أحضرا كرسيا ونظرا إلى قائليْن:

– إيدك يا أستاذ معانا ننزل الحاجة. وكان لا بد أن أشارك فى حمل أم صابر الجالسة على الكرسى كالعِجل المذبوح مرتخية تماما وما أثقل الإنسان، فلم أتعرض فى حياتى لهذا العمل الشاق من قبل.

قمنا نحن الثلاثة بإنزال السيدة إلى سيارتى، وكانت عملية إنزال أم صابر من أصعب المهام التى تعرضت لها فى حياتى حيث كان لا بد أن نحافظ على هذه الكتلة البشرية من السقوط من الكرسى فى ممر ضيق جدا، بدأ العمل بأن أمسك بظهر الكرسى ثم يحمل الرجلان الآخران مقدمة الكرسى وتبدأ رحلة النزول وأنا أتحمل الجانب الأخف، ولكن بمجرد البداية فى النزول كادت أم صابر تسقط على وجهها، فكان حتميا أن نعكس الوضع فأصبحت أنا فى المقدمة والآخران فى الخلف ودارت علىّ الدوائر، ولم أجد بدًا من حمل مؤخرة الكرسى على ظهرى والنزول رويدا، متأسيا بعامل يمنى كان يحمل ثلاجتى المعطوبة نزولا من السلم بنفس الطريقة.

نسيت فى هذه اللحظات مَن أنا، خاصة أننا كنا نتخبط فى الحوائط ونتعرقل فى درجات السلم، وأم صابر مرتاحة فى مقعدها وسعيدة بتسليك فوانى قلبها وحققت ما تريد، عدنا بأم صابر إلى بيتها وحملها شباب الحي إلى الدور العاشر وهي تصيح:

– امسكوا فى الأستاذ يتغدا معانا.

ولكنى انسحبت بسرعة إلى سيارتى أتحسس ظهرى وجسمى المتعبين قبل أن تكون لها طلبات أخرى وأعتقد أننى حققت ما طلبه منى صابر وزيادة، ولعله يقرأ هذه القصة ويطمئن على والدته منها.

محمد المليجي

عن Mohamed El Meleigi

Professor of Plant Pathology and Microbiology Worked at University Alexandria Egypt, North Dakota State University, University of Kentucky, Kansas State University, king Saud University, Qassim University

اقرأ ايضاً

ذات الرداء الاسود

ذات الرداء الأسود ا. د. #محمد_المليجي أزعجتنا هذه الحسناء ذات القوام الممشوق والشعر الغجري الكثيف …

Leave a Reply