رواية نفوس أسيرة
محمد المليجي :عندما ينطلق بك قطار الزمن وتعبر معه محطات الحياة حتي يصل بك الى المحطة الأخيرة ، لتجد نفسك في بناية ذات أسوار عالية ، تتخذ منها وطنا ومن رفاقك من المسنين أهلا، فأنت فى مجتمع أصابه الجفاء وشح فيه الوفاء وجفت فيه أنهار المودة.
المؤلف
المحتويات
الفصل الأول: اسماعيل حافظ
أهاب كثيرا تلك البناية العتيقة الرابضة هناك في أحد الشوارع الهادئة بحي الشاطبي بمدينة الإسكندرية والتي تزين جدرانها من الخارج أشجار البونسيانا القديمة ذات الأزهار الحمراء الجميلة والتى تقف فى صفوف منتظمة كأنها جنود تسهر على حراستها، ويزيد هذه البناية غموضا مدخلها الرخامي الأسود وبابها العتيق المصنوع من خشب طبع الزمن عليه بصماته وكأنه باب حصن أو قلعة من العصور الوسطي والذى تميزه تلك المقابض الذهبية الشديدة اللمعان وكأنها لم تلمسها يد من قبل.
كلما مررت بهذا الباب العتيق أجده مغلقا ولم أر أبدا أحدا يدخل أو يخرج منه فهذه البناية دائما موصدة الأبواب والنوافذ وصامتة كصمت تلك القبور التي تقع فى الجانب المقابل لها من الشارع.
تطل عليك واجهة هذا المبني متسللة بين الأشجار الكثيفة كوجه نمر يختبئ بين أحراش الغابة متأهبا لاختطاف فريسته من المارة، تسير جوارها لمسافة طويلة ولا تعرف نهايتها الممتدة في أعماق هذا المكان الغامض. ولو اقتربت قليلا من مدخلها ودققت النظر ستجد لافتة صغيرة وخجولة صنعت من النحاس الأصفر تخفى معظمها أوراق نبات الجهنمية المتسلق على هذه البوابة وقد حفر عليها باللون الأسود ” دار الوفاء “. ولكن ماذا يعنون بدار الوفاء وأي وظيفة تقوم بها هذه الدار ولمن يكون الوفاء.
بقيت لفترة طويلة أجهل كل شيء عن تلك البناية وماذا بداخلها حتى تبين لي مؤخرا أنها دار لرعاية للمسنين.
بعد أن عرفت حقيقة هذه البناية أصبحت أتوجس منها ويتملكنى الخوف كلما مررت بها فأسرع الخطي وترتفع نبضات قلبي خوفا من أن يأتي اليوم الذي يفترسني فيه هذا النمر المختبئ بين هذه الأشجار العتيقة.
خفت أن أجد نفسي يوما سواء طوعا أو كرها نزيلا من نزلاء هذه الدار وأن أصبح أسيرا ضمن هذه النفوس الأسيرة بداخلها وكنت أهاب هذا البناية كمهابتي لتلك المقابر التى تقع فى الجهة المقابلة لها.
ازدحمت دار الوفاء وأمثالها المنتشرة فى مدن مصر بالنزلاء من المسنين مؤخرا بعض أن شح الوفاء في مجتمعاتنا وأصبح معنى الوفاء عند الكثير من البشر هو أن تضع أبيك أو أمك في دار للمسنين رحمة بك وبهم وتتركهم هناك لقدرهم بين أمثالهم ثم تتعود على غيابهم وهم أحياء وتنسى وجودهم في الدنيا رغم أنهم لا يمكن أن ينسوك مهما فعلت بهم.
ينقسم نزلاء دار الوفاء من المسنين إلى نوعين من البشر الأول منهما هم من أُدخل هذه الدار رغما عنهم ليعيش فيها، والنوع الثاني هم من اختاروا العيش فيها طوعا بعد أن انقطع عنهم الأحبة والأصدقاء وأعياهم المرض وسئموا استغلال الناس لهم ففضلوا العيش في دار الوفاء حيث يشترون بأموالهم الخاصة الرفقة بعد الوحدة والعناية بعد الإهمال بعيدا عن الناس وبحثا عن الراحة حتى يحين أجلهم.
نظرا للسمعة الطيبة لدار الوفاء بحي الشاطبي أصبحت الدار كاملة العدد لا تستقبل ضيفا جديد إلا بذهاب أحد سكانها.
بنيت هذه الدار فى أثناء الحرب العالمية الثانية كمستشفى إيطالى ولذلك عندما تمر بمبانيها تشعر أنك تمر فى أحد شوارع روما القديمة أو الإسكندرية القيصرية فتبرز من حوائطها وأعمدتها رؤوس وأجسام التماثيل العارية أحيانا وكأنهم حراس من التاريخ القديم للمبني العتيق.
تظهر فوق الأبواب رسوم وحفائر مجسمة غامضة كأنها التمائم التى تعود السكان على رؤيتها ولا يفهمها أحد ولكنها مثيرة للفضول الذى لا يجد إجابة.
كان بدار الوفاء جناحين كبيرين أحدهما للسيدات والآخر للرجال وفى الوسط بهو كبير يلتقي فيه النزلاء في الدار ليقضوا معا معظم وقتهم الطويل والممل دائما.
يجتمع النزلاء كل صباح ومع كل وجبة فى مطعم الدار لتناول الطعام ثم يمتلأ ثم ينتقلوا الى البهو لتناول القهوة والشاي وقراءة الجرائد وتبادل الحكايات ان وجدت.
ينسحب غالبية النزلاء كلا الى حجرته بعد ساعة أو أقل من الجلوس فى البهو ما لم يفاجئهم زهدي فرحات بعزفه الرائع على البيانو فينشر البهجة بين نزلاء البيت ويقوم البعض ليرقص على أنغام موسيقاه الحالمة.
لا يتحمل بعض المقيمين صوت الموسيقى فيترك المكان ويتجه إلى حديقة الدار ليقضى بعض وقته ليواصل احتساء الشاي أو القهوة أو يلعب الدومينو والطاولة أو الورق تحت أشجار الفيكس المنمقة والبونسيانا الجميلة التى زادتها شيخوختها بهاء وعظمة.
كانت الزيارات للنزلاء مفتوحة يوم الجمعة والأحد من كل أسبوع وكان يوم الأحد اليوم هو الأكثر نشاطا حيث يأتي فيه غالبية اقرباء وأصدقاء النزلاء لزيارتهم.
كان البعض ينتظر يوم الأحد بشغف لينعم بزيارة ذويه الحريصون على زيارته بإنتظام، بينما تكون الزيارات شحيحة أو معدومة للبعض الآخر منهم بعد ان تركهم ذويهم ليواجهوا وحدهم النهاية.