محمد المليجي : من مجموعة قصص نوران
كانت ياسمين إحدى طالبات كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، وكان اسمها وشكلها متطابقين تماما مع طبيعة كلية الزراعة، حيث كانت فعلا مثل زهرة الياسمين التى يفوح عطرها من خلف أسوار الفيلات بشوارع الإسكندرية الراقية، فتحس بعبقها ينساب فى فضاء المكان حتى ولو لم تكن تراها.
كانت ياسمين هادئة، قليلة الكلام لها رفقة من الزميلات اللاتى يتجمعن دائما معها بين المحاضرات تحت شجرة البونسيانا الجميلة، ذات الأزهار الحمراء والظل الوارف الذى يشغل مساحة كبيرة من ساحة الكلية التى تزينها الأزهار ونباتات الزينة الجميلة.
كلما وقفت ياسمين مع زميلاتها تحت ظل شجرة البونسيانا، كان هناك من الشباب المتطفلين الذين يحاولون أن يفرضوا أنفسهم على هذه المجموعة من الفتيات، لمجرد تبادل بعض الكلمات معهن أو الفوز ببسمة أو ضحكة تشفى شغف الشباب، ولكن من النادر أن يستمر اللقاء كثيرا فينصرف الشاب الطفيلى وتبقى شلة الطالبات هذه مترابطة ومحترمة بعيدة عن القيل والقال فى وسط الجامعة.
عرفت ياسمين بالاحترام وحسن الخلق أو كما يقال «بنت ناس» ولكنها كانت متحفظة كثيرا، فهى لا تشارك فى أنشطة الجامعة من رحلات وندوات مثل باقى زميلاتها.
كانت عيون الكثيرين من راغبى الزواج ترقبها وسرت بعض الشائعات عن بعض الدكاترة والمعيدين تقدموا إلى خطبتها، وبالطبع لم يكن هناك مجال للطلاب من زملائها للدخول فى هذا السباق، وفى أحد الأيام- وبدون مقدمات- حضرت ياسمين إلى الكلية وفى يدها خاتم ودبلة خطوبة، وبالطبع تساءل الجميع من قطف زهرة الياسمين، ولم تتأخر الإجابة كثيرا فقد خطبها أحد الدكاترة الذى يعرف أيضا أنه من عائلة كبيرة ومتيسر ماديا ومن القليلين من أعضاء هيئة التدريس الذين يمتلكون سيارة ولكنه كان متكبرا وغيرمحبوب من غالبية الناس، بالإضافة إلى أنه يكبرها بعشر سنين.
لاحظنا أن هذه الخطبة زادت من انطواء ياسمين فلم تعد تجتمع حتى مع زميلاتها وبدأت ألوان فساتينها المشرقة تتبدل شيئا فشيئا فتصير أكثر عتامة و كآبه وكأن شيئا قد تغير بداخلها فانعكس على مظهرها الخارجى وذوقها العام.
بدأت زهرة الياسمين تذبل وينطفئ بريقها، حتى قبل أن تتزوج، وسمعنا أن خطيبها كان غيورا ومتسلطا.
تخرجت ياسمين فى الكلية وتوارت سيرتها فى دروب الحياة وانشغل الناس بأمور أخرى، وبعد حوالى خمس سنوات سافر زوجها إلى الخارج فى مهمة علمية بدولة أجنبية، وقرر الاستقرار بها وترك عمله بالجامعة بصورة نهائية، وتوقعنا أنه سافر برفقة عائلته، وتاهت ياسمين مع أسرتها فى زحمة الحياة وانشغل الناس كل بحاله.
بعد خمسة وعشرين عاما تقريبا من سفر ياسمين وزوجها للخارج وانقطاع كل أخبارهما، كنت فى رحلة نيلية سياحية من الأقصر الى أسوان، وكانت الرحلة كالعادة تضم اُسرا من مصر ومن شتى بقاع الأرض تلتقى لأول مرة دون موعد مسبق على ظهر فندق عائم كبير.
هناك على البعد شاهدت وجها كنت أظن انه غاب عن الذاكرة وغيرت فى تضاريسه الأيام، إنها ياسمين تجلس بجوارإحدى زميلاتها من الصحبة القديمة وقد ترك الزمن أثره الواضح على كل تفاصيل الوجوه والأجساد، رأيت ياسمين هناك وقد جف عودها وتسلل الشيب إلى رأسها مثلى تماما، وغالبا ما يكون الرفاق مرآة لعمرك ترى فيهم نفسك ولكن ياسمين كانت أكثر تعبيرا منى عن قسوة الحياة.
كانت ياسمين التى عرفت بالصمت فى صغرها لا تتوقف عن الكلام مع صديقتها ورأيت معهما رجلان لا أعرفهما وليس منهم زوج ياسمين الذى هاجر معها منذ خمسة وعشرين عاما.
قلت لزوجتي: هاتان كانتا زميلتيِّ فى الكلية، وربما تتعرفان علينا، وفعلا لم تمر ساعات حتى وجدت ياسمين التى لم تكلمنى أبدا وهى طالبه تسحب صديقتها وتقترب منى وتسأل: ألست أنت فلان فأجبت بنعم وسألت: ألست أنت ياسمين وأنت راوية، قالتا: نعم وضحكت ياسمين وقالت: أنت لم تتغير كثيرا فقلت (مجاملا): ولا أنتما فضحكا وقالتا: إزاى بقى ما راحت علينا من زمان، وضحكنا جميعا.
حضرت زوجتى فقدمتها لزميلتى القديمتين، ثم أحضرت ياسمين وزميلتها الرجلين المرافقين لهما وقدمت ياسمين مرافقها على أنه أخوها وقدمت صديقتها مرافقها على أنه زوجها.
انتهت المقابلة الأولى بيننا ولكنى لم أستطيع أن أعرف أين زوج ياسمين ومتى عادت من الخارج، وقد علمتنا الحياة أن نتحفظ فى طرح الأسئلة، خاصة فى الأمور الاجتماعية، ولا نسأل عن أمور قد تسبب حرجا للآخرين، ورغم أن موضوع ياسمين شغل بالي، ولكنى لم أرد أن أستقصى الأمر، مرت الأيام الثلاثة الأولى ونحن منشغلون بالرحلة نستمتع بضفاف النيل وآثار مصر العظيمة على ضفتيه.
وفى إحدى الأمسيات- وكنا قد اعتدنا بعضنا بعض الشيء، واندمجت زوجتى مع ياسمين وزميلتها وكان أخو ياسمين وزوج صديقتها منشغلين بلعب الورق فى زاوية بعيدة، وفجأة سألتنى ياسمين: أنت لم تسألنى أين زوجى أم أنك تعرف القصة كاملة؟ قلت: لم أسالك لأن هذا شيء شخصى وكل ما عرفته أنكما سافرتا للإقامة فى الخارج منذ 25 عاما وتعرفين أنى أيضا تركت الكلية بعد التخرج وعشت خارج مصر طيلة هذه المدة.
قالت: هل تعرف أن أحمد طلقنى قبل أن يسافر وتركنى حاملا أربعة شهور فى طفلة؟
قلت: أنا آسف لسماع هذا وكيف تصرف الدكتورأحمد بهذه الطريقة؟
بدأت ياسمين تقص علينا قصة حياتها بلا تحفظ، وكأنها ترغب فى أن تخرج ما بداخلها وتتخلص من عبئه ليذهب بعيدا مع رياح النيل التى تهب على سفينتنا، لا بد أن ياسمين قد حكت قصتها للكثيرين من قبلى ولكنها أشعرتنى أنى أول من يسمعها، فقد كان الكلام يخرج من قلبها، ورغم أن ضوء الليل الخافت كان يخفى كثيرا من ملامحها، إلا أن نبرات صوتها كانت كافية لتنقل لى أنا وزوجتى كل ما تعانيه، شعرت أن زميلتها كانت صامته ولم تلقِ للأمر كثيرا من الانتباه، لا بد أنها سمعت نفس القصة كثيرا من ياسمين وربما عايشت أحداثها.
قالت: عندما تقدم أحمد لخطبتى فرحنا به وكان الناس يحسدوننا على هذا النسب، وكنت صغيرة وغشيمة وليست لى أى تجارب فى الحياة، وأنا من أسرة متوسطة الحال تقدس الحياة الزوجية واحترام الزوج، لكنه استغل هذا أسوأ استغلال، وبدأ منذ البداية يملى علينا شروطه ويفرض علينا أشياء لا أحبها، وقبلت كل ما كان يفرضه على لأنى كنت طالبة وهو دكتور فى الجامعة.
بعد عقد قراننا قال لى إنه لا يرغب فى أن ننجب أطفالا إلا بعد خمسة أو ستة أعوام من الزواج حتى نستمتع بالحياة ثم نفكر فى الإنجاب.
انتظرت خمس سنوات فعلا وكان ضغط أمى عليّ شديدا وكانت تحثنى كل يوم على الإنجاب، وفعلا قررت الحمل دون استشارته، وانتظرت حتى أصبح الجنين فى الشهر الرابع وحاولت تحَيُّن الظروف لإخباره.
فى إحدى الأمسيات هيئت كل الظروف حوله ليكون سعيدا وعندما هممنا للنوم قلت له: أريد أن أخبرك بخبر سعيد انتظرناه كثيرا وشاء الله أن يتحقق.
انتبه أحمد واعتدل فى سريره وقال: خيرا إن شاء الله
قلت: أنا حامل يا أحمد
فجأة نفض الغطاء وقفز من السرير وقد تطاير الشرر من عينيه وتزاحمت العبارات فى حلقه كأن ثعبانا لدغه.
قلت: لقد حدث ذلك بالخطأ وهذه إرادة الله.
ولكنه تحول إلى وحش كاسر وتبدلت هيئته وصال وجال واتهمنى بالخيانة، وقال إنه لا يرغب أبدا فى أن ينجب وأن الأطفال كارثة، والعجيب أنه ظل يبكى بحرقه لم أعهدها فيه، وظل يتمتم بكلمات لم أفهمها فى حينها إلا أنى فهمت منه بعد ذلك سبب عزوفه عن الإنجاب وخوفه منه.
قال أحمد لياسمين وهو يجفف دموعه من وقع الخبر: إن أحد العرافات أقنعته انه لن يعيش يوما بعد أن ينجب، وأن ولادة طفل له تعنى نهايته حيث ستنزع منه الحياة لتستمر فى خلفه؟
كانت أمى تنتظر نتيجة المواجهة بينى وبين زوجى على أحر من الجمر، وكلما رن التليفون ترددت فى رفع السماعة، لأنى أعرف تماما أن أمى على الطرف الآخر، لم يتوقف زوجى عن العويل والصراخ لأكثر من ساعة وقد تجمدت أوصالى من الخوف بأن يتطور الأمر ويضربنى بشيء من أساس المنزل، اقترب منى زوجى وقال: ليس هناك حل إلا الإجهاض وأنه سيجد طبيبا يقوم بالعملية دون علم أحد، لم يكن لدى أى حل سوى الموافقه على طلبه.
واصلت ياسمين قصتها وقد تبللت عيناها بالدموع التى كانت تنعكس عليها أضواء المركب الخافتة وبدأ نور القمر يشتد ليضيف سحرا للمكان ويشكل مسرحا دراميا لقصة ياسمين الغريبة.
بدت ياسمين أمامى مثل ساقية كانت ليلا على الترعة التى تمر بقريتنا فينهمر من عيونها الماء ويخرج من صوتها المتقطع وجع وأنين.
قالت: حضرت نفسى للإجهاض فى اليوم التالى بلا مقاومة أو اعتراض مستسلمة لقدرى مع زوجى وقضيت ليلة بائسة غير قادرة على أن أفعل شيئا.
جاء الصباح واتصلت بى أمى مبكرا وكان قد أرقها طول انتظار نتيجة المواجهة مع زوجى فقلت لها ما حدث وأنه ذهب مبكرا يبحث عن طبيب لإجهاضى فى البيت أو فى مستشفى، جن جنون أمى ولأول مرة أجد أبى الهادئ دائما، أيضا ثائرًا وغاضبًا.
حضر والدايّ فورا إلى بيتى وهما فى قمة الغضب ليقولا لى إن زوجى هذا ليس بإنسان، إنه سيقتل جنينى وقد يقتلنى أيضا، هذا ليس جنين سفاح إنه ابنه ولن نجعله يحطمك بجنونه هذا، لن نتركه يفعل هذا بك مهما كانت الظروف.
أصبحت فى حيرة من أمرى ولكنى اقتنعت برأى والدى وصممت أن أحتفظ بجنينى بغض النظر عن ما سيحدث منه.
توقفت ياسمين عن الحديث قليلا وارتشفت بعض العصير ونحن متحرجون من أن نقول لها إننا لا نريد سماع باقى القصة التى أحزنتنا وجعلت دموعنا أيضا تسيل، لكن ياسمين على ما يبدو تريد أن تتحدث وتريد أن تخرج أشياء فى نفسها وكان الليل والقمر والنيل يواصلان رسم خلفية عجيبة ومثيرة لهذه القصة الحزينة، فقد أسدل الليل ستائره على صفحة النيل وبقيت أضواء سفينتنا تتقاطع مع ضوء القمر فوق أمواج تبتعد وتقترب منا، كأنها تحاول أن تسترق السمع فتدنو ثم تبتعد بخجل شديد.
استرسلت ياسمين فى حكايتها بعد أن بللت فمها ببعض العصير وقالت: حضر زوجى إلى البيت فى الساعة الواحدة ظهرا ليجد أمى وأبى فى انتظاره .. وبدأ أبى الحديث معه بهدوء ليقول: إن ما يريد فعله حرام وإن ابنته لم تخطئ وأن الأطفال نعمة من عند الله .. .. إلخ، لكن زوجى انفجر فى أبى وقال له: هذا شأنى أنا وزوجتى فقط، وتجرأ بكلام على والديّ لم أقبله واعتبرته إهانه لأهلي.
لم تصمت أمى فقد أخرجت هى أيضا ما بنفسها وقالت له: بصراحة لن نجهض الطفل بأى صورة حتى ولو طلقت ابنتى وبيننا وبينك القانون والمحاكم وقد تحملناك كثيرا ولكنك لا تقدر أحدا.
هبطت كلمات أمى كالصاعقة على رأس زوجى وتجمد الموقف، وقالت أمي: إجمعى أغراضك يا ابنتى وتعالى معنا إلى بيت أبوكِ لحد ما يفوق لنفسه ويهديه ربنا، كنت فعلا قبل حضوره قد جمعت بعض ملابسى ومجوهراتى وجهزت حقيبة فحملها أبى وخرجنا من بيته ولم يحاول أن يوقفنى أو ينطق بكلمة واحدة.
بقيت فى بيت أبى حتى سمعت بعد أسبوعين أنه سافر للخارج فى مهمة علمية وما هو إلا أسبوع آخر حتى وجدت من يطرق باب أبى ويسلمنى ورقة طلاقى منه.
كان الطلاق كالصاعقة التى نزلت بى ولكنى صبرت وتحملت وعشت فى بيت أبى وأنجبت طفلة جميلة أسميتها أيضا ياسمين لتعوض أمها ياسمين التى ذبلت مبكرا، ولم أرغب فى الزواج مرة أخرى، والآن ياسمين الصغيرة تخرجت من كلية السياحة، وتعمل فى إحدى شركات الطيران بشارع شريف بالإسكندرية.
قلت لها: وأين وزوجك السابق الآن؟ ألم يسأل عن ابنته؟
قالت: أبدا لم يعرف حتى عن مولدها أو اسمها ولم يسأل عنها طيلة هذه السنين، وأنا أفهمتها أن أباها قد توفى فى حادث قبل أن تولد، وفعلا لا تسأل هى عنه ولا نعرف له أى مكان وهل هو ميت أم حي، أنهت ياسمين قصتها مع زوجها بقدوم أخيها وزوج زميلتها إلينا ليشاركانا الجلسة.
ومرت بنا السفينة عبر النهر العظيم فى صمت لا يقطعه إلا حركة الماء المميزة عندما تقفز الأسماك أو تمرح مع بعضها فتصدر الفقاعات الهوائية صوت موسيقى مميزا، مستغلة سكون الليل ونوم الصيادين، وتعجبنا من أحوال الناس وحظوظهم فى هذه الحياة، وانتهت رحلتنا وتفرق جمعنا المؤقت، وقبل أن نغادر المركب الفندقى الفخم تبادلنا العناوين والتليفونات على أمل أن نلتقى مرة أخرى فى المستقبل.
بعد ثلاث سنوات من هذا اللقاء حضر أحمد زوج ياسمين السابق من الخارج إلى مصر فى زيارة سياحية، وذهب ليؤكد حجزه للعودة بالطائرة للخارج من أحد مكاتب شركات الطيران بشارع شريف بالإسكندرية، وهناك استقبلته فتاة فى عمر الزهور تشبه تماما زوجته السابقة ياسمين التى هجرها بسبب حملها ولم يكلف نفسه يوما ما أن يسأل عنها أو يسألها إذا كانت قد أنجبت طفلا يحمل اسمه وهل هو ذكر أم أنثى، وأين تربت وكيف تعلمت وسلكت دروب هذه الحياة مع أم مطلقة؟
دارت برأس أحمد الذكريات ولكنه بصلفه وقسوة قلبه لم يعبأ بهذه الذكريات الأليمة ولم تحرك فيه شيئا فهو كما هو لم تغيره السنون.
طلبت الموظفة اسم السائح حتى تؤكد له الحجز، فكتب لها اسمه، واعترت الفتاة الدهشة لأن اسم السائح مطابق تماما لاسم والدها الذى توفى قبل ولادتها، ولكن ياسمين الابنة لم تستمر فى دهشتها كثيرا حيث أن تشابه الأسماء وارد جدا ويتكرر هذا فى حجوزاتها للزبائن.
طلب السائح أحمد رقم تليفون الموظفة والمكتب حتى يتصل بهم لأى ظرف يخص حجزه، فأخذت الموظفة كارت المكتب السياحى وسجلت عليه اسمها ورقم تليفونها الخاص، نظر أحمد للاسم ودقق فيه مرة أخرى وسألها باستغراب: إسمك ياسمين قالت نعم.
سألته: هل اسم ياسمين غريب غريب بالنسبة لك؟ فقال: أبدا اسم جميل.
انتهت المقابلة وظل أحمد مستغربا لهذا الموقف لأن ياسمين الصغيرة نسخة من ياسمين الأم، فى اليوم التالى اتصل أحمد بياسمين الصغيرة بعد ساعات العمل لكى يستطلع منها بعض الأمور بالنسبة لحجزه ولأنها كانت بعيدة عن التليفون طلبت من أمها أن تلتقط التليفون وترد عليه، التقطت ياسمين الأم التليفون لتسمع من الطرف الآخر متصلا يسأل: الآنسة ياسمين؟ ..استغربت الأم نبرة الصوت الذى جاء عبر سماعة التليفون.. إنه صوت يشبه تماما صوت أحمد زوجها السابق الذى سافر وغاب من سنوات .. ترددت ياسمين الأم للحظات ثم قالت: مين حضرتك قال لها أنا الدكتور أحمد يوسف…، يا إلهى إنه فعلا زوجها السابق، قالت له: من تريد؟ ..فقال: ألستِ أنت ياسمين.. لقد أخذت هذا الرقم من ياسمين موظفة السياحة؟
قالت: انتظر لحظة ستكون معك ياسمين.. وحضرت ياسمينالصغيرة لترد على استفسارات أحمد.
بعد انتهاء المكالمة .. دارت الدنيا برأس ياسمين الأم وقالت لنفسها لماذا أحرم ابنتى من رؤية أبيها ولو لمرة؟ وإذا كان هو شخصا قاسيا لماذا أكون مثله؟! فكرت كثيرا ولم يغمض لها جفن، وتسللت إلى موبايل ابنتها لتأخذ رقم زوجها السابق، واستغلت نوم ابنتها وطلبت أحمد لتقول له إنها ياسمين زوجته السابقة وأن ياسمين الصغيرة التى رآها فى المكتب السياحى هى ابنته التى لم يسأل عنها أبدا.
كانت مكالمة ياسمين لأحمد كالزلزال الذى هز كيانه، كيف عاش كل هذا العمر وحيدا فى الخارج بلا أهل ولديه هذه الابنة الجميلة والزوجة الوفية التى هجرها؟! كيف دمر حياته وحياة أسرته بسبب صلفه واعتقاده فى الخرافات؟! وسأل نفسه هل بقى فى العمر كثيرا لأعوض ابنتى وزوجتى السابقة عن الآلام التى سببته لهما؟ لم ينم أحمد هذه الليلة وقرر أن يصفى كل أملاكه فى الخارج ويعود لابنته الجميلة التى حرم نفسه منها كل هذا الزمان، وقرر أن يكون أول شيء يفعله فى الصباح أن يذهب إلى ابنته ويخطرها بأنه والدها الميت فى نظرها ويقدم كل ما يمكنه أن يقدمه من اعتذارات لعلها تقبل اعتذاره وتسامحه وتقبله أبا بعد هذه السنين، وظل يرتب كلماته التى سيبدأ بها الاعتذار والندم لابنته، وانتظر حتى يأتى الصباح بفارغ الصبر.
ذهب أحمد إلى مقهى فى شارع شريف مقابل للمكتب الذى تعمل به ابنته ليحتسى بعض القهوة وانتظر حتى يفتح المكتب السياحى أبوابه، وشاهد ابنته وقد حضرت للعمل وانتظر حتى تجلس فى مكتبها ولملم أفكاره وهم بعبور الشارع للجهة الأخرى بلهفة وخطوات سريعة دون أن ينظر للسيارات المارة بسرعة فصدمته سيارة مسرعة وارتطم رأسه بالرصيف ليسقط ميتا، وخرج الناس من مكاتبهم على هول المشهد الحزين للحادث ومنهم ابنته التى تألمت بشدة للحادث الذى أصاب أحد زبائنها الذى كان يحدثها بالأمس على التليفون، ثم عادت إلى مكتبها لتواصل حياتها دون أن تعرف أن المتوفى هو والدها الذى سبق و توفى قبل أن تولد.