استاذ دكتور محمد المليجي
بعد صلاة الفجر من كل يوم اعتدت أن أخلد للنوم لساعة او أكثر خاصة في أيام الأجازات وفي هذه الساعة ينام جسدي ولكن روحي لا تنام وأشعر احيانا أن روحي تتجول بحرية لا حدود لها وتطير من مكان الى مكان وتلتقي ببشر لا أعرفهم أو أهل وأحبابه ممن غادروا هذه الدنيا، وتري أحداثا تختلف في أهميتها ولكن بعضها يكون أحيانا مزعجا بدرجة تجعلك تقفذ متيقظا من نومك… وتقلق معك من هم بجوارك، لذلك فأحلام ما بعد صلاة الفجر تقلقني خاصة ان معظمها أحلامه يتحقق،
وفي يوم السبت الماضي وبعد صلاة الفجر لم تغفل عيني كالعادة ربما لأني نمت مبكرا بعد العودة الى مصر من سفر طويل ونلت قسطا وافرا من النوم وقررت أن اقضي وقتي بين الفجر والصباح في عمل شيئا دون ازعاج النائمين وأثناء عبثي بالمطبخ لعمل فنجان قهوة شاهدت راديو قديم مهمل على أحد الأرفف وتذكرت أن هذا الراديو كانت تستعمله والدتى لشيء واحد وهو قراءة القرآن ولا يتحرك مؤشره أبدا عن إذاعة القرآن الكريم. أمسكت بالراديو ومسحت عنه التراب وسعدت به سعادة لقائي بأمي عليها رحمة الله وكأني أتحسس بصماتها على الراديو، ولفت نظري وجود فراشة صغيرة ميته ومحنطة تطل علينا من زجاج واجهة المؤشر واستغربت كثيرا من وجود هذه الفراشة وكيف دخلت للراديو لتموت في هذا لمكان، وبطبيعة الباحث قررت متابعة البحث عن الموضوع وبحثت عن مفك لفك غطاء الراديو . ووجدت عود ثقاب داخل الراديو وقد تعفن أو أصابته السوسة التى تركت شرنقتها على العود وخرجت الفراشة البائسة التى بحثت عن مخرج لتعيد دورة حياتها ولكنه لم تستطيع فماتت وبقيت محنطة على مؤشر الراديو لتعلن فشلها للجميع في اكمل دورها في الحياة لأنها وبدون اختيارها ولدت وكبرت في المكان الخطأ وتم حل لغز الفراشة الميته ولكنى نسيت قهوتى فبردت دون ان ارتشف منها رشفه واحدة.
ما زال أهل البيت نائمون وأنا كالطفل الصغير أعبث بالراديو القديم الذي إعتبرته قطعة من الماضي العزيز على نفسي والمليء بالذكريات وفي لحظة من غياب العقل قررت ان أعيد تشغيل هذا الراديو القديم الذي ضرب فيه العفن وهذه طبيعة من لا يعرف اليأس، نظفت أجزاء الراديو جيدا ومسحت بطارياته وأزلت الصدأ عنها وشغلت الراديو وإذ بالراديو يصدر أصواتا تشبه صوت مخلوقات تحاول الخروج من تحت الركام ويصدر أصواتا مختلفة وكأنها أصوات حشرجة موتى يتزاحمون على المذياع كل منهم يريد ان يبلغني رسالة من خلال الراديو القديم، تسمرت في مكاني وتجمدت أوصالي للحظات وحضر الى ذهنى فورا قصص العفاريت والنداهة بتاعت زمان وتعجبت لما سمعت من هزيان يأتي من الراديو القديم ولكنى مددت يدي المرتعشة في حرص الى زر تغيير المحطات وإذ بى أنتقل الى محطة أخري تذيع برنامج ” كلمتين وبس” للمرحوم فؤاد المهندس وكان يتكلم عن التسعيرة الجبرية وجشع التجار ثم انتقلت الى محطة أخري وكانت تذيع برنامج بالسلامة ياحبيبي بالسلامة وترشد الناس على اتباع وسائل السلامة في السفر، ثم انتقلت الى محطة أخري وكانت تذيع أغنية محببة الى نفسي وهي ” يا جمال يا حبيب الملايين … ماشيين في طريقك ماشيين” وظللت انتقل من محطة الى اخري وقد عاد بى الزمان الى خمسون عاما مضت وشاهدت إخوانى الصغار وهم يلعبون ويلهون في حديقة البيت ويقف أبي في فراندة البيت ينادي عليهم للحضور الى الإفطار الذي أعدته الوالدة طازجا في الصباح وتذكرت ازهار الأقحوان الصفراءالجميلة التى زرعتها وأنا صغير في شرفة منزلنا وكنت أحزن اذا قطف منها احد اخواني زهرة واتشاجر معهم لذلك، ووسط السباحة في هذا العالم القديم حركت مؤشر الراديو لأجد موسيقى نشرة الأخبار المصرية المعهودة وتصورت أنى سأستمع الى أخبار السد العالى ونشاط دول عدم الانحياز وافتتاح جمال عبد الناصر لمصانع جديدة في نجع جمادي ودمنهور وكفر الشيخ ولكنى صدمت بالنشرة التى كانت تتحدث عن أوقات حظر التجول وأحداث كرداسة ومحاربة الارهاب في سيناء وهي اخبار محزنة وجديدة على مصر وكان الخبر القديم الوحيد بالنشرة هو حظر جماعة الاخوان المسلمين، لا أعرف بعد ذلك ما اذا كان البث قد توقف لنفاذ بطاريات الراديو القديمة أم لأنى أدرت المحطة بحثا عن المحطة التى يتنازع فيها الأموات الفرصة للتحدث الينا من خلال الراديو القديم لعلنا نستفيد شيئا من تجاربهم الماضية.
في ٢ أكتوبر ٢٠١٣م