عندما كنّا أطفالا وفى حصص الإملاء سمعنا من أستاذ اللغة العربية مرارا وتكرارا هذه العبارة ” نقطة ومن أول السطر” وتعني بالطبع إنتهاء جملة أو فقرة لنعود إلى بداية أخري من أول السطر ولكن هذه العبارة لا تعني إنتهاء الموضوع أو القصة.
منذ أسابيع كنت أسير وحدي على الشاطيء بعد أن فرغ من البشر وبعد ان كان مزدحما بصنوف منهم، يمرحون وياكلون ويشربون ويسبحون ويخلعون ويلبسون ويجرون خلف طيور البحر التى تغير على طعامهم.
ارتفع مد البحر تدريجيا مع الغروب ليزحف الموج مزمجرا أحيانا وهامسا أحيانا ليمسح آثار أقدام البشر ويغسل خطاياهم وإذ بالقمر يعتلى وسط السماء متوهجا كالبدر فى أجمل صوره ويأمر بجاذبيته البحر ليعود بأمواجة من حيث أتى فينكمش البحر سمعا وطاعة لأمر القمر.
رأيت القمر ينتشي فى السماء بعد أن عاد الشاطيء بكرا كما كان بالأمس ويفرض بهائه على الكون بل ويمد ذراعه الطويلة ليرسم ويكتب على صفحة الماء نقوش وحروف وكأنه يقول لنا كما قال الأستاذ عبد الرازق زمان “نقطة ومن اول السطر” ٠ وكأن القمر يقول للبشر لقد إنتهى يوما بحلوة ومرة ولنبدأ غدا يوما جديد وحلما جديد.
لا أعرف لماذا تذكرت الأستاذ إسماعيل وأنا أسير وحدي على الشاطيء فى ضوء القمر بل وسمعت صوته الواهن الضعيف وتذكرت جسمه النحيل والبدلة الرمادية المقلمة والنظارة البنية السميكة التى كان لا يخليها أبدا حتى فى الليل وهو ينادي علينا ونحن كلنا آذان لقصته او موضوع الإملاء ويقول مشيرا محركا سبابته لأسفل نقطة ثم يحرك يده أفقيا ويقول ومن اول السطر وكأنه يستخدم لغة الإشارة لتساعد صوته الضعيف فى إيصال المعلومة إلينا.
شعرت ان كل منا فى حياته لا بد يوما ان يطبق هذه العبارة عمليا فنحن جميعا نعيش موضوع إملاء او قصة قد تطول او تقصر وان بحياتنا فقرات لا بد ان تنتهى بنقطة لنبدأ فقرة جديدة دون ان نلتفت إلى الماضى وننشغل به أكثر من اللازم ولا نترك موضوع حياتنا بلا نقط وبلا بدايات ليختلط الماضى بالحاضر بالمستقبل وتصبح القصة مملة ممتلئة بالتجارب غير ذات الجدوي وتصبح الحياة مجهدة مختلطة المشاعر والمعاناة بلا نهاية.
على سبيل المثال عندما عزمت الخروج إلى المعاش كنت قد قررت وضع نقطة فى نهاية جملة العمل وقررت ان أبدا من اول السطر حياة جديدة وفقرة جديدة لها ملامح وأمال تتناسب مع العمر والامكانيات المتاحة دون الإخلال بالماضى ودون الإسهاب فى الطموحات.
كذلك عندما يقبل الشاب او الشابة على الزواج او تقلد وظيفة جديدة فهو يضع نقطة بعد فقرة مضت فى حياته ليبدأ من اول السطر فقرة جديدة لها ملامح وظروف جديدة ويجب ان ينشغل بها فقط حتى يحين الوقت لنهايتها ووضع نقطة خلفها.
والنقطة هنا هى وقفة نصل إليها بعد إقتناع وبعد دراسة لأن الرجوع فيها شبه مستحيل وعواقبه سلبية للغاية على حياة الإنسان ولا يمحوا نقاطه ويعود لتصحيح جمله ألا الانسان المتردد غير الحازم فى اموره. وأتذكر أستاذي الأمريكي فى الدكتوراه عندما كان يحكى لى فصول من حياته حين قال ان بالحياة نقاط محورية تحول مسارها ويجب ان يكون لكل أنسان وقفة وقرار يتخذه فى حياته ليبدأ من جديد.
شكرًا للأستاذ اسماعيل الذي علمنا “نقطة ومن اول السطر ” وشكرا للقمر والبحر والشاطئ الذين يقدمون لنا كل يوم درسا عمليا فى الحياة يحثنا على أن نضع نهاية أو نقطة خلف كل موضوع شغلنا أكثر من اللازم ولا جدوي من إلإستمرار فيه لنبدأ مرة أخري من اول السطر .
نقطة ومن اول السطر