ذهب مصطفى إلى حجرته وأحضر مفكرة سميكة قديمة وضعت داخل مظروف أصفر متهالك من مظاريف وزارة الصحة القديمة كتب علية وزارة الصحة إدارة الوحدات الصحية.
ألقى مصطفى بالمظروف أمام صديقه كمال وبداخله المفكرة السميكة قائلا:
– ستجد فى هذه أصلى وفصلي يا كمال وأرجوا أن تقرءها بعيدا عن الناس وأن لا تخون أمانة السر الذي أقسمت أن تصونه.
تعجب كمال من الأمر وهو ينظر للمظروف الأصفر القديم والمفكرة التي بداخله .
عندما حل المساء ذهب كمال الى حجرته وبعد أن استقر فى سريره أمسك بمذكرات صديقه مصطفى وبدأ يقرأ.
كان العنوان الرئيس “من أنا ” وقد كتب بخط سلس جميل هو نفسه خط مصطفي الحالي الذي يتميز به.
لا أعرف كيف ابدأ قصة حياتي فكل شيء بالنسبة لى ضبابي وغير واضح ولكني سأبدأ على أي حال فهذه سيرة حياتي التي قررت أن أكتبها فى لحظة جنون رغم أن متأكد انها قد تكون وثيقة وقرينة قوية تتسبب فى إعدامي.
أصبح ذاكرتي القوية عبيء عليا لأنها تحتفظ بكل التفاصيل الدقيقة وذكريات الطفولة الأليمة التى عشتها وكأنها فيلم سينمائي مسجل بالألوان فى عقلي الباطن يبدأ فى الدوران فجأة كلما خلوت الى نفسي أو كلما قابلت موقفا يشابه أحداث حياتي. لا أعرف لماذا تطاردني دائما ذكرياتي ولا أستطيع أن أخلص روحي من هذا العذاب وأستريح منه.
رغم محاولتي للابتسام والابتهاج مع الناس فذكرياتي الأليمة لا تفارقني وكنت اسمع بأذني ما يقوله الناس عني بأني طفل بائس كالطائر الحزين الذي لا يغرد كما تغرد الطيور ولا يفرح أبدا رغم قدرته على التنقل والطيران من مكان إلى مكان.
نشأت أعشق الوحدة وقدري أن أكون هكذا تعيسا وكئيبا أحمل فى نفسي جروحا عميقة لا تندمل أبدا ولكني أحاول دائما أن أخفيها حتى لا يراها الناس حولي.
حتى بعد أن تخرجت من كلية الطب وأتيت بإختياري الى هذه الوحدة الصحية بقرية المناويش أصبحت أكره كل شيء فى هذه الوحدة الصحية الكئيبة وأكره كل وجوه أهل هذه القرية وأتمنى لهم جميعا الموت رغم أنى الطبيب الذي أتي لينقذهم من المرض ويخفف آلامهم ولكنى أتيت لكى أزيد آلامهم وأرسل أصحائهم قبل مرضاهم لمثواهم الأخير بقدر ما أستطيع ولو استطعت لأرسلتهم جميعا الى نار جهنم.
أرجو ألا تلوموني وتتعجبوا من مذكراتي واعترافاتي هذه قبل ان تعرفوا قصتي مع هذه القرية الظالمة.
منذ كنت طفلا صغيرا بدأ يري ويستوعب ما حوله كنت أستيقظ فى الصباح أحيانا فى شقتنا الصغيرة التى تقبع فوق سطوح احد العمارات القديمة بحي إمبابة لأري رجلا غريبا بيننا وأسأل أمى من هذا الرجل فتقول انه قريب لنا من قرية المناويش.
كنت لا أعرف ما هي قرية المناويش هذه ولا أين تقع من القاهرة التى كنت أظن انها العالم بأكمله ولكن كان كل ضيوفنا من هذه القرية التى أتيت إليها وأعيش فيها الآن.
تعددت زيارات أقاربنا من قرية المناويش وكانوا دائما من الرجال فقط يأتون فرادي دائما فى عتمة الليل ومعهم زيارات من البلد حيث يقضي الضيف ليلته ويغادر فى صباح اليوم التالي وكانت امى تتزين كلما أتي قريب لزيارتنا وتتركنى وحيدا فى حجرة صغيرة ملاصقة لحجرة نوم أمي وكانت بالنسبة لى كالسجن حيث تغلق أمي بابها علىيَّ للتفرغ للقاء الضيف القادم من قرية المناويش.
كبرت بعض الشيء على هذه الحياة وتضخمت فى نفسي الصغيرة الحيرة وكبرت ككرة الثلج وهي تسأل عن سر هؤلاء الرجال من أقاربنا من قرية المناويش مع أمي، ولكنى لم أكن أدرك حقيقة الأمر وكان السؤال المحير لى هو غياب أبي عني ولماذا لا أراه يأتي الينا مثل هؤلاء الرجال خاصة أن كل الأولاد حولي لهم آباء.
تجرأت ذات ليلة وسألت أمي بتلقائية الطفل:
– أين أبى يا أمي فكل الأطفال حولنا لهم آباء وأنا الوحيد الذى ليس له أب؟
نظرت أمي إلي ولم ترد وظلت تنظر إلي حتي فاضت عيونها بالدموع وهي تمسك بساعدي النحيل وتضغط بشدة حتى آلمتني وتحملق فى بعيون لا أنساها أبدا.
فاضت عيني أنا أيضا بالدموع وكررت السؤال على أمي بصوت متحشرج:
– اين أبى يا أمي ؟
قالت:
– طول عمري خايفه يوم تسألني السؤال ده بس انت سألته بدري قوي يا مصطفي.
كررت سؤالي بطريقة أخري:
– هوا ابويا مبيسألش علينا ليه يا أمي؟
قالت أمي:
– مسيره يسأل يا مصطفى
قلت:
– طيب وهوا ليه مبيجيش عندنا زي الرجالة دول؟
قالت:
– أبوك غائب من زمان يا مصطفي لأنه سافر بلاد بعيدة علشان يشتغل ومرجعش.
قلت:
– وهو عارف أن له ابن اسمه مصطفي؟
قالت:
– أكيد عارف ونفسه يشوفك بس هوا فين دلوقتي ..الله أعلم
قلت:
– وليه متسأليش عليه قرايبنا من قرية المناويش يمكن يعرفوه
قالت :
– أسئلتك كتيرة النهاردة يا مصطفى قوم يا ابني نام ولما ييجي حد من قرايبنا ح اسأله عن ابوك.
مرت أسابيع حتى طرق باب شقتنا مرة أخري زائر من زوار الليل وكنت متحفزا لأن أسأله عن أبي وأين أجده.
دخل الرجل ووضع سلته جانبا وكان يبرز منها عنق زجاجة ولم اكن اعرف الخمر وفيما يستخدم ولكنها كانت قطعا زجاجة خمر.
ولأول مرة أتجرأ واجلس امام الضيف وكان صعيديا فارع الطول يرتدي جِلْبابا قاتم اللون وعمامة بيضاء وكلما ابتسم ظهرت فى فمه بعض الأسنان الذهبية.
كان الرجلا يبدوا مهيبا ولكني رغم صغري وضئالة جسمي لم أهابه وجلست متأهبا لطرح سؤالى الذي يلح عليّ دائما عليه.