بدأت الحياة تعود لطبيعتها فى دار الوفاء وعاد زهدي فرحات ليعزف الحانه على البيانو الصامت منذ وفاة مدام راوية ومدام نوال فاستيقظ الجميع فى صباح أحد الأيام على ألحان سيد درويش التى يعزفها زهدي فرحات ببراعة لتخبر الحاضرين أن الحلوة دي قامت تعجن فى البدرية والديك بيدن كوكو فى الفجرية يالا بنا على باب الله يا صنايعيه…
كان اللحن الرقيق يتسلل عذبا منعشا مع نسيم الصباح إلى آذان سكان الدار عبر النوافذ والأبواب لينهض الجميع الى يوم جديد وكأنه يقول لهم فلننسي ما حدث ولتستمر الحياة.
كان أول من استيقظ على صوت الموسيقى الجميلة الدكتور مصطفى وصديقه الحاج كمال فخرجا من حجرتيهما والتقيا فى الطرقة كالعادة ليتجها سويا الى البهو لسماع ورؤية عازف البيانو المحبوب زهدي فرحات.
حيا الصديقان زهدي بقبلة على كتفه وهو منهمك فى العزف وعادا ليجلسا على كنبة قريبه منه حتى يحين موعد الإفطار. وكان مصطفى يدخن بشراهة حتى قبل أن يتناول إفطاره وبدأ سكان الدار يتوافدون على البهو ويحيون العازف زهدي فرحات كل بطريقته ومنهم مدام رشيدة التى أحضرت له وردة جميلة وضعتها أمامه على البيانو.
توقف زهدي للحظات ليمسك بالوردة ويرفعها عاليا ويقول مداعبا رشيدة .. صباح الورد يا أجمل ورد.
خجلت رشيدة العجوز الرقيقة وانسحبت بعيدا عن زهدي وهي تضحك وتغطي بسمتها بيدها واتجهت حيث تجلس صديقتها كريمة ولكن عندما رفع زهدي الوردة ليحيى رشيدة لا حظ الجميع أن يد زهدي ترتعش بشدة وبدي للجميع أن مرض البركنسون أو الرعاش بدأ يتسلل لهذه الأيدي العبقرية فى العزف وربما تكون المداومة على العزف خير وسيلة لديه للحد من أثر هذا المرض الذى لا يعرف له دواء بعد.
كان الطبيب السابق مصطفي ذو اللكنة الصعيدية أحد نزلاء الدار الطيبين القلب ولكنه كان ثرثارا ومثيرا للانتباه بين زملائه من الرجال والنساء خاصةعندما يتكلم عن ماضيه ومغامراته فى الحياة فى الطب والتجارة.
لم يأخذ البعض كلامه بالجدية الكاملة ولم يصدق أحد أنه كان طبيبا يوما ما ولكن تعرفه على الجمجمة التى وجدت تحت سرير نوال لفت انتباه الكثيرين له وبدأ نزلاء الدار يصدقون قصصه الغريبة عن حياته الطبية.
كان مصطفي يقص على من حوله فى الدار قصص متعددة ولكن كانت قصة حياته التى لم يبيح بسرها أكثر تلك القصص غرابة. كان هو وصديقه الحاج كمال متشابهين فكلاهما كما يقال مقطوع من شجرة لا ولد ولا بنت ولا زوجة ولا قريب يسأل عنهما وكلاهما أيضا ليس له صديق فى هذه الدنيا إلا شهادات الادخار القابعة فى البنك ليعيشوا وينفقوا من ريعها على بقائهم فى الدار.
في أحد الأيام قال كمال لصديقة مصطفى وهما يلعبان الطاولة تحت شجرة الفيكس كالمعتاد:
– تعرف يا مصطفي انه رغم انك صديقي من عشر سنين وليل نهار مع بعض .. أنا لا أعرف إنت مين وما هو أصلك أوفصلك.
توقف مصطفى عن الإلقاء بالزهر وصمتت الطاولة وتحول وجه مصطفى من البسمة الى تكشيرة جادة وقال لكمال:
– وهل سألتك أنا عن أصلك وفصلك أوأنت منين وبلدك فين.
قال كمال:
– وهذا أيضا أنا أتعجب منه فلم تفكر أنت يوما أن تسألني عن أصلي وفصلي؟
قال مصطفي:
-وماذا ستكسب من معرفة أصلي وفصلي يا كمال؟
قال كمال:
-لن أكسب شيئا ولكنها طبيعة الناس أن تعرف بعضها وأصلها وفصلها.
قال مصطفى وهو مازال ينظر بجدية لكمال:
-ليتني أعرف ما هو أصلي وما هوفصلي يا صديقى.
قال كمال:
-هل يوجد أحد لا يعرف أصله وفصله يا مصطفي؟
قال مصطفى:
-أنا يا كمال لا أعرف أصلى أو فصلي؟
قال كمال :
-أعوذ بالله .. لقيط يعني أو فاقد للذاكرة ؟.
نظر مصطفي إلى كمال نظرة حزينة وظل صامتا وهو ينظر الى صديقه ولأول مرة يري كمال وجه مصطفى البشوش يتحول الى سماء مليئة بالغيوم وتتحول عيناه الى سحابة ممطرة تنسال منها الدموع لتجري فى أخاديد وجهة التي حفرها الزمن كالأنهار.
شعر كمال بالخجل والأسف من سؤال صديقة عن أصله وفصله وتأكد أنه فتح جرحا عميقا فى أغوار نفسه مصطفى كان يخفيه عنه طول هذه السنين.
قال كمال:
-أنا آسف يا مصطفي أنى سألتك هذه الأسئلة أنا أداعبك فقط وخلينا نروح نتغدي.
قال مصطفي:
– أبدا هذا حقك علي كصديق ولكن ارجوا إن اطلعتك على أصلي وفصلي ان تقسم لى أنك ستحفظ سري.
قال كمال:
-لا داعي للإجابة على سؤالي السخيف هذا وكأنك لم تسمعه يا مصطفي.
قال مصطفي:
- ستعرف أصلي وفصلي ولكن سيكون هذا سر بيني وبينك.
قال كمال:
– أقسم لك أني سأحفظ سرك ولكنك لست مضطرا لأن تقول لى شيئا فقد كان مجرد سؤال عابر.
قال مصطفي:
– ستعرف كل شيء عني بعد الغداء.
جلس الصديقان لتناول وجبة الغداء وكان مصطفى صامتا على غير عادته كما كان كمال الذي شعر بالحرج الشديد لتوجيهه سؤال فى غير محله غير من مزاج صديقة المرح والثرثار دائما وبعد أن انتهي مصطفى من غدائه قال لكمال:
– إنتظر هنا قليلا وسأعود إليك.
ذهب مصطفى إلى حجرته وأحضر مفكرة سميكة قديمة وضعت داخل مظروف أصفر متهالك من مظاريف وزارة الصحة القديمة كتب علية وزارة الصحة إدارة الوحدات الصحية.
ألقى مصطفى بالمظروف أمام صديقه كمال وبداخله المفكرة السميكة قائلا:
– ستجد فى هذه أصلى وفصلي يا كمال وأرجوا أن تقرءها بعيدا عن الناس وأن لا تخون أمانة السر الذي أقسمت أن تصونه.
تعجب كمال من الأمر وهو ينظر للمظروف الأصفر القديم والمفكرة التي بداخله .
عندما حل المساء ذهب كمال الى حجرته وبعد أن استقر فى سريره أمسك بمذكرات صديقه مصطفى وبدأ يقرأ.