الفصل الثاني : راوية
/كانت مدام راوية اسما على مسمي فهي قصاصة ماهرة تتحدث كثيرا مع صديقاتها في الدار عن ابنائها وبناتها وأحفادها وتروي لهم قصص كثيرة مسلية عن حياتها معهم قبل القدوم الى دار المسنين وكيف ربتهم حتى أصبحوا في مناصب مرموقة. كانت تقص كل يوم قصة عن أحد ابنائها او بناتها دون ان تذكر مرة شيئا عن زوجها وأين ذهب وهل هو الآن حيا او ميتا.
ظلت راوية تحكى عن عائلتها لصديقاتها شهورا وشهورا ولكن لم يري أحدا أي من أبنائها وعائلتها التى تتحدث عنهم دائما ولم يأتي لزيارتها زائرا واحدا يسأل عنها وكأن الدنيا ابتلعت أقاربها الذين تتحدث عنهم بحب وتحفظ لهم ذكريات جميلة.
كانت راوية سيدة مسنة ولكنها أنيقة تشبه سيدات إنجلترا المسنات اللاتي يرفضن الاعتراف بعمرهن فيصففن شعرهن جيد ويضعن ماكياجا بسيطا وجميلا ويتعطرن مع كل مناسبة أو خروج للشارع مرتديين افضل الملابس، لذلك كانت راوية تسر الناظرين بغض النظر عن ثرثرتها وقصصها المكررة عن أسرتها التى لم يراها أحد غيرها.
استمرت راوية على هذا المنوال لسنوات وهي تتأنق كل صباح وتلتقي مع صديقتيها المفضلتين رشيدة وكريمة على الإفطار حيث ينتقلون من مكان إلى مكان بين بهو الدار وحديقتها ليقضين وقتهن بين التسلية ومشاهدة المسلسلات التلفزيونية.
لم تتوقف روايات راوية الكثيرة والمتكررة حيث يؤدي تصلب الشرايين لدي معظم الناس في هذا السن الى ضعف الذاكرة ويميلون إلى تكرار نفس القصص والمواقف التى مروا بها فى حياتهم لنفس الشخص دون ان يتذكر القاص انه سرد نفس القصص من قبل.
كانت مدام رشيدة لا تستطيع السمع جيدا بدون سماعة مساعدة ولذلك كانت تضع سماعات صغيرة في اذنيها كالقرط وتخفيها تحت باروكتها وكلما استرسلت راوية في حكاياتها المكررة مدت يدها بخفة ونزعت سماعاتها وتركت راوية تقول ما تريد.
كانت رشيدة تعمل سابقا موجهة في التعليم العام ولها ولدين وابنة وهاجر ولدها الأكبر إلى أستراليا بينما تزوج ابنها الثاني من زوجة لا تتفق معها فى شيء كما تزوجت ابنتها وبقيت رشيدة مع زوجها الذى توفي فجأة وتركها وحيدة وهي فى الثالثة والسبعون من العمر.
قررت رشيدة العيش فى بيت المسنين بعد أن أرهقتها الشغالات وانشغل عنها أبنائها. احتفظت مدام رشيدة بقدر وافر من الجمال حتى وهي في الثالثة والسبعين من العمر وهذا جعل بعض النزلاء من الرجال يتقربن منها أحيانا وكان هذا يسبب لها بعض الحرج أحيانا وخاصة عندما ينسي رجل شيخوخته ويفقد وقاره ويغازلها بكلمات ربما لا تحب ان تسمعها خاصة أمام زملائها لذلك كانت رشيدة تتجنب الجلوس بالقرب من تجمعات الرجال في الدار كلما أمكن ذلك لأن البعد تماما عن الرجال فى هذه الدار المكتظة بالرواد كان غير ممكنا.
أما ثالثتهم مدام كريمة فكانت لا تتكلم كثيرا وتعالج كل مشاكلها بالصمت أحيانا والابتسام أحيانا أخري. كانت كريمة غامضة لا تتحدث عن حياتها أبدا ولا يعرف عنها أحد شيئا وكان يزورها كل يوم أحد بانتظام رجل وامرأة في مثل عمرها لم تقل عنهم شيئا سوي انهما من الجيران. لا أحد يعرف اين اَهلها ولا هي تتكلم عنهم ولكن من الواضح انها تخفى أسرارا كثيرة لا تريد ان يطلع عليها أحد.
كانت لغتها وطريقة تعاملها تدل على انها مثقفة ومن أسرة فوق متوسطة. كانت تختار ملابسها بعناية وتضع ماكياجا غير صاخب في غاية الرقة والجمال يتناسب تماما مع عمرها وبشرتها الخمرية الناعمة.
بعد وفاة الدكتور إسماعيل خيمت الكئابة على لقاءات الصديقات الثلاثة لعدة أيام قبل أن تعود الحياة لطبيعتها فى الدار. وفى أحد الأيام حضرت راوية ورشيدة وكريمة للإفطار كالعادة وكانت راوية متوعكة بعض الشيء في هذا الصباح وتتوكأ على عصاها وهي تحاول الجلوس مما لفت انتباه رفيقتيها فنهضا لمساعدتها حتى أقعداها جوارهما.
في هذا اليوم كانت راوية قليلة الكلام على غير العادة ولكنها قصت عليهم حلما غريبا حيث رأت الدكتور اسماعيل يكلمها بطلاقة ويتحدث معها وكأنه شاب فى الثلاثين من العمر وكان يمسك بيده قلم ويرسم فى الهواء ورودا ونباتات جميلة لم تري مثل جمالها من قبل ثم يمد يده فيمسك بها وكأنه ساحر ثم ينسق هذه الزهور ويصنع منها فرشا جميلا وكأنه سرير منسوج من الزهور والنباتات فقالت لأه راوية:
– لمن تصنع هذا السرير الجميل ؟
ابتسم الرجل ولكنه لم يفصح ثم اختفى وتيقظت راوية مضطربة من هذا الحلم وماذا يعني.
قالت رشيدة:
– خير ان شاء الله يا راوية وربما الرجل يريد ان يشكرك على كل ما قدمتيه له قبل ان يموت.
صمتت راوية لبعض الوقت ثم قال لصاحبتيها ان ابنتها قد تحضر في نهاية الاسبوع لتأخذها معها لتحضر عيد ميلاد حفيدها أحمد. لم تأبه الصديقتان برواية راوية فقد سمعا مثلها كثيرا ولم يأتي أحد لزيارتها ولكنهما تأكدا أن راوية قد عادت إلى طبيعتها ، وجري اليوم بأحداثه المتكررة كالعادة وبنفس الممل والرتابة ، فلا شيء يتغير فى هذه الدار.
تمر الأيام على نزلاء الدار دائما ثقيلة بلا أمل وبلا طعم أو لون بعد أن ولت أيام الشباب والعمل والكفاح اليومي ، و ياله من شعور صعب عند ما يشعر الإنسان أنه مهمل وأصبح مثل السيارة القديمة المتوقفة فى الجراج فى انتظار التخلص منها يوما ما.
في اليوم التالي جلست مدام رشيدة ومدام كريمة على طاولة الإفطار انتظارا لراوية لتقص عليهم قصة اليوم الجديدة عن اَهلها وأسرتها وأحفادها الذين لم يراهم أحد.
لم تحضر راوية فى الوقت المعتاد وساور رشيدة وكريمة الشك فى سبب تخلفها عن الإفطار. ذهبت الصديقتين كل منهن تتوكأ على عصاها الى حجرة راوية بحثا عنها وعن سبب تأخرها عن الإفطار وكان باب حجرتها مغلقا فدقوا على الباب ولكن راوية لم تجيب.
ساورهم القلق أكثر على راوية التى دخلت حجرتها أمامهم ليلة أمس وهي لا تغيب أبدا عن الإفطار معهم ، فطلبوا أحدا من ادارة الدار لفتح الباب للاطمئنان على راوية.
حضرت موظفة الإدارة تحمل المفتاح العام وفتحت باب حجرة راوية وكانت صدمة كبيرة للجميع.
فقد وجدوا راوية ممددة في فراشها وقد فارقت الحياة وهي تقبض في يدها على قطعة من الورق والقديمة. اقتربت رشيدة فى ذهول من راوية تحاول ايقاظها ولكنها كانت بالفعل قد توفت منذ ساعات، فالتقطت الورقة التى فى يدها والتى كتبت عليها راوية بخط يدها ” آسفة صديقاتي لن أستطيع مواصلة قصصي معكم بعد اليوم فاليوم اعود لله وحيدة كما أتيت وحيدة سامحوني”.
بكت رشيدة وكريمة رفيقتهن راوية بشدة وحضر مشرفو الدار لاتخاذ الإجراءات المعتادة للكشف الطبي لتحديد سبب الوفاة قبل الشروع فى الدفن.
أطلعت رشيدة وكريمة على بطاقة الرقم القومي لراوية وعلما لأول مرة من المشرفين على الدار، إنها لم تتزوج ولم تنجب وكانت موظفة كبيرة وصلت إلى درجة وكيل وزارة فى أحد المصالح العامة وبعد ان تقدم بها العمر باعت كل ممتلكاتها ووضعتها في وديعة تنفق علي حياتها ومعيشتها في دار الوفاء للمسنين.
تركت راوية خلفها وصية بأن تظل وديعتها فى البنك كصدقة جارية بعد وفاتها لتمول محتاجا آخر لا يستطيع دفع نفقات معيشته ليعيش في الدار في نفس حجرتها وعلى نفس سريرها.
بعد أن توفت السيدة راوية مرت الأيام حزينة وثقيلة على الصديقتين رشيدة و كريمة فالموت هو الحدث الذي لا هروب منه والنهاية التى ينتظرها كل سكان هذه الدار فعندما يتقدم بك العمر تتواري الأحلام وتتقلص الطموحات لتصبح كل طموحاتك ن مجرد الأمل فى البقاء بصحة جيدة للفترة الباقية فى الحياة.
تركت راوية فراغا كبيرا فى دار المسنين وافتقدت الصديقتان حديثها وقصصها المسلية الجميلة والتى كانت من الخيال وتأكدت الصديقتان أن راوية كانت تصف أحلامها لا واقعها فإذا كان الواقع مر فليس هناك اجمل من ان تصنع الخيال كما تحب وتعيش فيه ولا تستسلم لليأس وتعيش مكتئبا.
استطاعت راوية فى حياتها ان تحيط نفسها ومن حولها بجو من التفاؤل والسعادة المصطنعة ولم يكن ذلك سيئا طالما أنه لم يضر أحد.
بعد وفاة راوية حرصت رشيدة وكريمة على اللقاء كل صباح على نفس الطاولة التى كانت تجمعهم لسنوات ودأبت كريمة وبعفوية كاملة على أن تحتفظ بمقعد ثالث على الطاولة وتضع عليه حقيبتها وشالها وكان نفس المقعد الذي جلست عليه راوية لسنوات وكأنها ترفض غيابها وتستأنس بمقعدها الذي أخلاه موتها.
ظلت حجرة راوية فارغة لبعض الوقت ولكنها كانت موضع اهتمام رشيدة وكريمة وهن ينتظرن المرأة التي ستحل مكانها حسب وصية صديقتهما المرحومة راوية.
كانت رشيدة وكريمة يذهبن إلى كل وجبة خاصة وجبة الإفطار وهن يتلفتن حولهن بحثا عن راوية غير مصدقين أنها لن تصحبهم مرة أخري وبدأ حديثهم المرح المتفائل الذى كانت راوية تبثه فيهما كلما التقوا يتضاءل ويتوارى ويحل محله الصمت الحزين وكأن موت راوية ذكر صديقتيها بأن النهاية حتما قادمة ولكن كيف ومتي فالله أعلم.
استقبلت دار الوفاء عدد كبير من طلبات الاستضافة من المحتاجين الواردة من وزارة الشئون الاجتماعية حيث تدرس كل حالة جيدا ويرسل بملفات المستحقين للرعاية المجانية لدور المسنين لتنتقى منهم ما يناسبها وما تسمح به ميزانياتها التى يمولها أهل الخير. حرص مجلس إدارة دار الوفاء على أن يفحص كل الطلبات المقدمة من المحتاجين للاستضافة حيث كانت الدار تستضيف نسبة قليلة من غير القادرين. كانت الدار تفضل المواطنات والمواطنين السكندريين ذوي الخلفية الثقافية المتميزة نسبيا والتى تتناسب مع النزلاء المقيمين بالدار.
كان من سياسة الدار أيضا ألا تفصح عن أسماء هؤلاء المحتاجين منعا للإحراج ليعيشوا معيشة طبيعية بين النزلاء الآخرين. ولكن وصية راوية بأن يسكن في حجرتها من بعدها أحد المحتاجات جعل رشيدة وكريمة الوحيدتان اللتان تعرفان أن القادم مكانها لا بد أن تكون من المحتاجات.