دأبت إدارة الدار على تنظيم رحلة اسبوعية فى مدينة الإسكندرية للراغبين من النزلاء فى التنزه فتأخذهم فى نزهة الى البحر وقلعة قايتباي والمنتزه ليقضوا بعض الساعات فى الهواء الطلق ويختلطون بالناس والحياة العامة. وكان شيئا عجيبا أن يرفض البعض الذهاب فى هذه الرحلات الأسبوعية وكأنهم يئسوا من هذه الحياة وهذا المجتمع وأصبحت كل أمنيتهم أن يعيشون فى هدوء بعيدا عن كل شيء يذكرهم بماضيهم.
كان الدكتور اسماعيل من هؤلاء فيرفض الذهاب فى تلك الرحلات إلا فى صحبة راوية، وفى أحد الأيام خرج الدكتور اسماعيل مع أحد هذه الرحلات دون راوية التى تحرص عليه وترافقه دائما اينما ذهب ولكنه فى هذه الرحلة على ما يبدو نسي راوية وقرر بلا إرادة مرافقة الرحلة.
صعد الدكتور اسماعيل الى الحافلة متأنقا كعادته واختار مقعدا فى المنتصف جوار النافذة وكان سعيدا بالنظر الى معالم المدينة متجها من الشاطبي إلى منطقة الأنفوشي وكأنه يري الإسكندرية وهذه المباني وهؤلاء البشر من المارة لأول مرة.
كان الدكتور اسماعيل يسبح فى فضاء خاص به لا يشاركه فيه أحدا ممن حوله رغم ابتساماته المتكررة لكل من يحدثه أو يبادله النظر. لم يكن قادرا على التواصل مع أحد غير راوية التى نساها أيضا فى هذه الرحلة.
توقفت الحافلة عند قلعة قايتباي وبدأ الجميع الخروج منها للتنزه على الشاطئ وزيارة القلعة، ولكن الدكتور اسماعيل رفض النزول وفهمت المشرفة أنه يريد أن يستمتع بوقته بالبقاء فى الحافلة والجلوس فى مقعده المطل على البحر.
تركه الجميع يجلس وحيدا في مقعده، وبعد قليل ترك السائق أيضا الحافلة ليحتسي الشاي على رصيف البحر فى الهواء الطلق في مكان لا يبعد كثيرا عن الحافلة.
استمرت الزيارة للقلعة ساعتين من مغادرة الركاب للحافلة وبعد أن انتهوا من جولتهم السياحية عاد الجميع لركوب الحافلة استعدادا للعودة الى دار الوفاء.
كان مقعد الدكتور إسماعيل خاليا !
صاحت المشرفة فى السائق تسأله أين الدكتور اسماعيل ولكن السائق حرك رأسه نافيا أنه رآه يخرج أو يدخل من باب الحافلة.
ضج الجميع من اختفاء الرجل فقد اختفى الدكتور اسماعيل من الحافلة وسط دهشة الجميع ولم يراه أحد وهو يتسلل خارجها.
أنتشر معظم القادرين على السير من رفاقه يبحثون عن الرجل فى كل الأماكن القريبة المحيطة بالحافلة وبالقلعة ولكن بعد اكثر من ساعة من البحث تبخر أملهم فى العثور عليه.
ربما خرج الرجل من الحافلة وسار هائما على وجهة ليسقط فى ماء البحر أو ليجد نفسه تائها فى شوارع المدينة لا يعرف أحد ولا يعرفه أحد. استمر البحث عن الدكتور اسماعيل لساعات أخري دون جدوى.
أبلغت ادارة دار الوفاء الشرطة عن تغيب الدكتور اسماعيل وكان الرد من الشرطة صاعقا فلا يمكن البحث عن الغائب قبل ان يمر 48 ساعة على غيابه.
اتصلت الدار بجميع المستشفيات دون جدوى وظن البعض أنه ربما يكون على قيد الحياة فى مكان ما أو في استضافة أحد من الناس الذين وجدوه هائما على وجهه فى الشوارع.
حزن الجميع على غياب الدكتور اسماعيل حافظ وخاصة راوية التى ارتبطت به وكانه اخيها الكبير او والدها وكانت تتابع مع ادارة الدار اخبار اسماعيل ساعة بساعة لعلهم يجدونه ويعيدوه الى دار الوفاء.
ولكن للأسف اتصلت الشرطة بالدار بعد أربعة أيام من غيابه لتبلغها أن الدكتور اسماعيل عالم النبات المشهور وجد جثة هامدة على رصيف أحد الشوارع بعد أن صدمته سيارة وولت الفرار.
فقد سار الدكتور اسماعيل حافظ هائما على وجهه فى شوارع منطقة بحري بالإسكندرية لايدري اين يذهب ولا يعي كل شيء حوله، واثناء عبورة احد الشوارع صدمته سيارة مسرعة فقذفت جسده الضعيف من منتصف الشارع ليهبط على الرصيف وفرت بعيدا وتجمع الناس في محاولة انقاذه ولكنه كان قد فارق الحياة.
انسحب الناس من حول الجثة خوفا من المسئولية وقام احد المارة بتغطية الجثة باوراق صحيفة الأهرام التى كانت في يده وغادر قبل ان تاتي سيارة اسعاف وسيارة للشرطة للمكان.
ظلت جثة الرجل ملقاة على الرصيف مغطاة بأوراق الجرائد بلا هوية لا يعرف أحد شيئا عنها حتى حضرت الشرطة وسيارة الإسعاف لتحمله الى مشرحة المستشفي العام القريب، وكان الرجل قد خرج لهذه الرحلة لا يحمل ما يدل على هويته سوي تلك القطعة البلاستيكية التي تحيط برسغه الأيسر ولا تحمل سوي الاسم وبعض الأرقام التى تخص ملفه بالدار. ولكنه كان يحمل فى جيبه اوراق بها بعض رسوم نباتاته التى كان يعشقها.
نقلت جثة الدكتور اسماعيل الى المستشفي العام القريب وهناك تم التعرف على صاحب الجثة بعد بحث استمر لعدة أيام.
جرب البحث عن أقرباء له لتسلم جثته ولم يستدل على أي منهم ولكن تلاميذه ورفاقه القدامى فى العمل كانوا هم الاهل الذين حضروا بالعشرات ليواروه التراب.
حزن رواد الدار حزنا شديدا على النهاية المؤلمة وغير المتوقعة للدكتور اسماعيل وتأثرت راوية بشدة بموت هذا الرجل الذى كان يأنس لها وتأنس إليه وتحب الجلوس معه وتسمع كلامه العاجز المتقطع لترسم منه قصصها الخيالية عن حياته.