يوم من أيام سميرة
ا.د. محمد المليجي
عادت الآنسة سميرة من عملها فى الثالثة عصرا، أوقفت سيارتها فى نفس المكان المعهود الذي تقف فيه كل يوم ، وتغضب كثيرا اذا حاول احدا من الجيران إيقاف سيارته فيه.
نادرا ما يسمع أحد صوتها إلا وهي تعاتب البواب لأن احد الجيران استولي على موقف سيارتها. تدخل شقتها وتغلق بابها ولا تظهر أبدا إلا لشيء واحد وهو الضجة التى يحدثها أولاد الجيران امام شقتها. هؤلاء الأشقياء يضربون الكرة فى بابها مرات ومرات فتخرج لتوبخهم او تأخذ الكرة منهم وتحتجزها لبعض الوقت قبل ان تلقى بها على السلم.
لا يعرف أحد شيئا عن الآنسة سميرة التى تجاوز عمرها الأربعين عاما. لم تتزوج بعد ولم يري أحدا لها أقارب أو أصدقاء يزورونها. ولا يعرف الجيران ما هي وظيفتها وما هو نوع العمل الذي تقوم به .
إنها إمرأة جادة فى كل علاقاتها بالسكان وجادة في مظهرها العام الذي يدل على انها تقوم بوظيفة مهمة. قد تكون محامية او موظفة فى السلك الدبلوماسي ولكنها فى كل الأحيان غامضة تماما، فلا تختلط بأحد من السكان ولا تعرف منهم إلا عم سعيد البواب، الذي تكلفة أحيانا بجلب بعض احتياجاتها من السوق.
كان أطفال الجيران هم المنغص الوحيد لحياتها بسبب ضجتهم وعدم اكتراثهم بموعد راحتها بعد العصر. أصبحت أجازتهم الصيفية مصدر متاعب كثيرة لها، حيث يسهرون حتى الصباح ويركلون الحوائط والسقوف بأقدامهم فيقضون مضجعها، ولا سبيل للتحكم فى ذلك.
عادت الأنسة سميرة من العمل إلى بيتها يوم الخميس تحمل بعض متطلبات حياتها اليومية. فهي تعد لقضاء نهاية أسبوع هادئة تستريح فيها من عناء أسبوع عمل شاق، وكعادتها عندما تدخل الشقة تخلع حذائها عند الباب وتتجرد من ملابسها الخارجية، وتنطلق بحرية فى شقتها بعد ان تشعل أسطوانة موسيقى هادئة تستمع إليها وهى تعد غذاء لفرد واحد.
وأثناء اعدادها للغذاء دق جرس الباب على غير العادة فى مثل هذا الوقت. تركت سميرة المطبخ وذهبت إلى الباب ونظرت من عينه السحرية لتجد وجه جارتها والدة الأطفال الثلاثة الذين يقضّون مضجعها دائما.
ارتدت الآنسة سميرة ملابسها بسرعة وفتحت الباب لتجد جارتها التى كانت تراها فقط لتشكو لها من شقاوة ابنائها وقد وقف بجانبها اولادها الثلاثة كل يحمل حقيبة فى مثل حجمة تقريبا.
.
وقفت الآنسة سميرة خلف الباب وقد تجمدت أوصالها من وقع كلام جارتها الذي كان كطلقات الرصاص المتعاقبة التى وجهت اليها دون سابق إنذار. لم تصدق سميرة فى البداية ما تسمع وقبل ان ترد بكلمة كانت الجارة قد التفتت للخلف وتركت اطفالها يحملون حقائبهم الكبيرة التى تعج باللعب والأشياء الغريبة على الآنسة سميرة.
لم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت حتى استوعبت سميرة الموقف وأنها اصبحت فجأة مسئولة عن ثلاثة اطفال لأول مرة فى حياتها وبدون مقدمات.
لم يمهل الأطفال الثلاثة سميرة لحظات للتفكير وتسرب الأطفال الثلاثة مباشرة من الباب كالزئبق إلى شقة الأنسة سميرة وانتشروا بسرعة كالغزاه يكتشفون الشقة وقد ألقى كل منهم بحقيبته فى ركن من المكان.
وقفت سميرة مندهشة لما يحدث فى بيتها وكان كبيرهم باسم ذو العشرة سنوات يدور فى الشقة كالنحلة ليبحث عن شيئا ما ولم يجده فوقف أمام سميرة المذهولة يسألها
اين الكمبيوتر بتاعك يا أبله سميرة ؟
قالت سميرة:
ماذا تريد من الكمبيوتر
نظر اليها باسم باستغراب وقال:
اريد ان العب عليه
قالت:
ليس به ألعاب
قال: بسيطة هل لديك نت
قالت: نعم
قال: سأحمل كل الألعاب التى أريدها ، وأثناء حديث سميرة مع باسم كان احمد ابن الثامنة يعبث بتلفزيون سميرة يحاول ان يركب أسلاكه ولعبه
جرت سميرة نحو أحمد تستفسر منه عما يفعل بالتلفزيون فنظر إليها بإستغراب ولم يرد وباشر فى محاولاته لتوصيل اجهزته بالتلفزيون وقبل ان تحاول سميرة منعه كانت الصغيرة هايدي بنت الأربعة سنوات تجذبها من يدها وتقول لها:
فين الحمام انا مزنوقة على الآخر.
هرولت سميرة بهايدي إلى الحمام وهى لا تعرف ماذا تفعل مع الطفلة لتساعدها ولكن هايدا حللت المشكلة وقالت لها:
انتظري خارج الحمام ولو احتجت مساعدتك سأناديكي.
وقفت سميرة امام باب الحمام حتى انتهت هايدي من مهمتها وخرجت دون طلب مساعدة وقالت لسميرة:
غسلت يداي بعد ما انتهيت زي ماما ما قالت.
نظرت إليها سميرة وقالت:
شاطرة.
قالت هايدي:
هما فين ولادك علشان ألعب معاهم
صمتت سميرة للحظات وقالت:
انا معنديش ولاد يا هايدي وممكن تلعبى مع اخواتك
قالت هايدي :
اخواتى مش بيرضو يلعبوا معايا وبيضربونى علشان أنا أصغر منهم
وقفت سميرة حائرة ماذا تفعل مع هؤلاء الغزاة الجدد وكل منهم قد احتل مكان فى شقتها بمنتهى الجرأة والسرعة وهى مكتوفة الأيدي.
تذكرت فجأة انها لم تعد غذائها وقد تركت كل شيء فى المطبخ حين دق جرس الباب. ذهبت إلى المطبخ لتعد الغذاء ولكن تغير الموقف الآن فلديها ثلاث ضيوف صغار لا بد انهم جائعون، ولكن ماذا يأكل الأطفال؟
لم تعرف سميرة من قبل كيف تقدم وجبات لأطفال صغار وبيتها يخلوا من كل شيء يمت للأطفال بصلة.
فكرت سميرة فى ان تتصل بزميله لها فى العمل وهي ام لطفلين لتستعين بها فى كيفية إطعام الأطفال. ولكنها اقلعت عن الفكرة خوفا من ان يفتضح امرها بالعمل ويتندر عليها أصدقائها وهم يعرفون انها تكره كل شيء يمت للأطفال بصلة خاصة اولاد جيرانها الأشقياء.
خرجت سميرة من المطبخ وهى تتحسس الطريق وكان كبيرهم منهمك فى تحميل لعبه من النت والآخر بدأ يلعب كالمجنون امام التلفزيون فيقفذ لأعلى ويلوح بيديه ويرسل ضربات فى الهواء وكأنه يصارع جن غير مرئي وكلما اقتربت منه هايدي لتؤدي بعض الحركات لكمها وأبعدها عنه.
ذهلت سميرة للمنظر فلم تري مثل ذلك من قبل وبعد برهة قالت بصوت متقطع وخجول:
هل ترغبون فى الغذاء ؟
سمع الجميع سؤالها بسهولة رغم الضجة وصاحوا جماعة … هيه .. الغذاء جاهز
قالت: الغذاء ليس جاهزا بعد ولكن ماذا تحبون ان تأكلون، وليتها لم تسأل هذا السؤال فقد صاح الثلاثة كل يطلب شيئا لا تعرفه وهي تقف عاجزة عن الفهم، ولكنها تذكرت شيئا تعرفه جيدا فى حياتها وهو الحزم، فوقفت منتصبة امام الأطفال الثلاثة وقالت:
كل اللى عندي تونة ومكرونة وفراخ مشوية ما هو اختياركم.
نظر الأطفال إليها بإحتقار شديد كاد يفجرها ولم يرد أي منهم عليها وواصلوا لعبهم وفضلوا الجوع على تناول ما تفرضه عليهم الآنسة سميرة.
وقفت سميرة عاجزة عن التصرف ولا يمكن ان تأكل وتتركهم بلا غذاء.
جلست سميرة على الكنبة تجتر غيظها وهي تفكر في المشكلة ونظرت إليها هايدي الصغيرة المنبوذة من إخوانها ثم دنت منها كالقطة وجلست ملتصقة بفخذها ثم أمسكت بيدها وبدأت تلعب فى أصابعها وأحست الأنسة سميرة بشعور غريب يجتاح جسدها بملامسة هذه الطفلة لأصابعها وبدأ الشعور بالغيظ ينطفيء وبأعصابها ترتخى كأنها فى جلسة تدليك.
وجدت سميرة يدها تمتد لتمسح برأس هايدى ونظرت إليها هايدى قائلة:
انا احب البيض كثيرا فهل لديك بيض؟ قالت سميرة :
نعم لدي بيض
قالت هايدي:
ولكنى احب البتزا اكثر وكذلك باسم وأحمد ولكن ماما ترفض شرائها لنا وتصنعها فى البيت ونحن لا نحب البتزا المصنوعة فى البيت.
كانت فكرة ذكية من هايدى الصغيرة انتبهت لها سميرة فنهضت من مكانها وقالت للجميع هل تحبون البتزا؟
صاح باسم واحمد وقالوا نعم نحبها كثيرا ولكن مع البطاطس والكاتشاب والبيبسي
قالت سميرة:
سأطلب لكم بيتزا وسأبحث عن رقم التوصيل للمنازل
قال باسم:
أنا احفظ الرقم وهو ….. وكان فعلا يحفظ الرقم عن ظهر قلب بينما لم تطلب سميرة فى حياتها اي مأكولات من الخارج قبل ذلك اليوم.
طلبت سميرة لأول مرة فى حياتها البيتزا التى وصلت خلال ساعة واحدة استغلتها سميرة لتجمع فيها أشياءها المتناثرة خوفا من ان تقع فى أيدى الأطفال.
رفعت سميرة لأول مرة من سنوات ذلك المفرش العتيق الذي تغطى به طرابيزة السفرة والكراسي التى تحيط بها فقد تعودت ان تاكل فى المطبخ وهى واقفة غالبا ثم تذهب لترتمى على الكنبة امام التلفزيون وهي تعبث بجهاز الكمبيوتر وتقضي بعض أعمالها عليه حتى يحل موعد النوم.
حضرت البتزا وأكل الأطفال بنهم وانتثر الببسي على الطاولة بيد احمد سريع الحركة وسال على السجاد العتيق وتناثرت بقايا اللحم المفروم والكاتشاب فى كل مكان واصيبت سميرة بالاكتئاب المؤقت وهى تحاول تنظيف أثار غزوة البتزا والببسي.
انتهى الجميع من الغذاء وتصورت سميرة انها استطاعت ان تنجز مهمة الغذاء لضيوفها العفاريت الصغار. ولكن هيهات فقد وقف أحمد قائلا اين الآيس كريم يا أبله سميرة ؟
ردت هايدى وقالت:
ماما قالت لنا نقول لها يا ماما سميرة مش يا ابله سميرة
قال احمد:
فين الآيس كريم يا ماما سميرة؟
وقفت سميرة عاجزة مرة أخري وهي تسمع لأول مرة فى حياتها من يناديها بماما وصمتت قليلا ثم تداركت الموقف وذهبت الى المطبخ وضغطت على زر لجرس يدق فى حجرة عّم سعيد البواب الذي صعد السلم مهرولا لأن الأنسة سميرة نادرا ما تطلبه فى هذا الوقت من اليوم
حضر عّم سعيد ووقف على الباب يقول:
خير يا ست سميرة.
قالت سميرة:
عايزة آيس كريم يا عّم سعيد للولاد
تعجب عّم سعيد من طلب سميرة ولكنه توقف عن تعجبه عندما رأي هايدي تجري لتقف بجوار سميرة
احضر سعيد الآيس كريم الذي أكله الضيوف بحرفية شديدة فى بضع دقائق.
سأل باسم ماما سميرة عن مكان النوم لانه يريد ان يضع بعض محتويات حقيبته جوار سريرة.
كانت شقة سميرة تحتوي حجرتين للنوم احدهما كانت لوالدتها التى توفيت منذ سنوات فأغلقت سميره الحجرة كما هي من يوم وفاة والدتها ولم تستخدمها أبدا رغم حرصها على تنظيفها من وقت إلى آخر الا ان ملابسها ظلت معلقة فى دولابها كما تركتها يوم وفاتها.
وقفت سميرة حائرة كيف ترد على باسم ولكنها قررت بسرعة ومنعا للإحراج ان ينام باسم وإخوته فى حجرتها هي وأن وتقضى هي الليلة فى حجرة أمها المغلقة او على الكنبة امام التلفزيون.
أسرعت سميرة إلى حجرة نومها لترتبها وتخفى ملابسها المتناثرة هنا وهناك وكانت هايدي فى كعبها تحاول كإبنة صغيرة ان تساعد أمها فى ترتيب الحجرة بأناملها الصغيرة وبعد ان فردت سميرة ملاءة جديدة على السرير وقفت هايدي متعجبة وهى تسال سميرة قائلة:
اين المفرش البلاستيك؟
قالت سميرة:
لماذا المفرش البلاستيك؟
قالت هايدي:
ماما بتحط مفرش بلاستيك تحت الملاية علشان احمد بيبل نفسه وهوا نايم
تنبهت سميرة للموقف وبحثت عن مفرش بلاستيك تستخدمه فى السفرة ووضعته بالفعل تحت الملاءة وشكرت هايدي على نصيحتها الثمينة التى جنبت سرير سميرة من العطب.
أرشدت سميرة الولدين إلى مكان نومهما فى حجرتها، ولكن هايدي لم تحاول الانضمام إليهما ووقفت ملتصقة بسميرة وهي تمسك بيدها وتهمس لها :
انا لن انام معهم .. انا سانام معكي مثل ما انام مع ماما.
نظرت إليها سميرة ولم تتكلم وهى التى لم ينام فى حضنها أحد قط من قبل، فكيف ستتصرف مع هذه القادمة الصغيرة التى تطلب ببساطة شديدة ان تنام معها.
وكانت سميرة قد تعودت ان تري الأخبار وتتابع بعض المسلسلات التلفزيونية فجلست امام التلفزيون لتقلب قنواته ولكن كانت الكثير من أسلاك لعبة احمد قد امتدت إليه فحاولت ان تعيد الأمور إلى طبيعتها حتى تشاهد برامجها وأثناء ذلك سمعت صراخ وضجة فى حجرة النوم فتركت التلفزيون وهرولت إلى حجرة نومها لتجد احمد وباسم مشتبكين بالايدي ويركل كل منهم الآخر فأمسكت بهما وفرقتهما وهى تسأل بحدة إيه الحكاية .. فيه إيه يا ولاد.
بكى احمد وقال باسم ضربنى علشان إخترت انام بره على السرير مش جوه لانى مش بحب انام جوه.
قالت بره إيه وجوه إيه كله واحد والكبير يختار الاول
قال احمد بس انا باروح الحمام كتير بالليل
نظرت سميرة للسرير المركون جوار الحائط وقررت سحب السرير للخارج حتى تتيسر مسافة حول السرير من الجهتين وحلت المشكلة بهذه الطريقة وعادت لتتابع برامجها التلفزيونية وعاد الولدان لمتابعة العابهما وكانت هايدي قد جلست تعبث بمفاتيح الكمبيوتر بينما انشغلت هيا بمتابعة الأخبار.
عاد الولدين من حجرة النوم ليواصلا لعبهما حتى يحين موعد نومهما الذي يكون دائما متأخر فى الإجازات.
جلس الولدين غاضبين من هذا الاحتلال النسائي لألعابهما ولم يصبر باسم كثيرا وذهب لأخته يقول لها أمامك خمسة دقائق وتتركي الكمبيوتر فاستغاثت بماما سميرة التى تدخلت وطلبت ان يتركها باسم تلعب ربع ساعة فقبل على مضض.
وقف احمد متنمرا وهو يراقب سميرة تشاهد الأخبار وقال لها وحضرتك ح تخلصى إمتا وترجعيلى التلفزيون.
شعرت سميرة بالحرج امام هذا الطفل الذي يجلس منتظرا حتى تفرغ من سماع الأخبار فتركت التلفزيون فورا وسلمته له واتجهت إلى المطبخ تفكر فى عشاء الضيوف فلن تستطيع طلب بتزا مرة أخري للعشاء وقررت ان تفرض رأيها فى العشاء دون استشارة الأطفال.
صنعت طبق كبير من البيض المقلى ووضعت بعض الجبن والزبادي والمقرمشات والخبز والعسل والعصائر على طاولة السفرة وصفقت لتنبه الأطفال بان العشاء جاهز.
إستغرب الأطفال من هذا التصرف الدكتاتوري للآنسة سميرة التى لم تسألهم ماذا يأكلون فى العشاء، تحرك الأطفال نحو السفرة وهم يفحصون الطعام الموضوع عليها ويتردون فى الجلوس حتى صاحت سميرة بحزم: سأرفع الطعام من الطاولة بعد نصف ساعة ومن لا يأكل سينتظر للصباح، جلس الأطفال على الكراسي وبدأ كل منهم ينتقى ما يحب ان يأكل وكان البيض المقلى سيد السفرة وانتهى العشاء على خير.
جلست هايدي بجوار سميرة على الكنبة وهى تحملق فى ملامحها وتسألها الكثير من الأسئلة المحرجة احيانا بينما استمر الأولاد فى لعبهم حتى غفت هايدى وتوقف احمد عن اللعب فجأة واتجه مباشرة إلى حجرة النوم من فرط الإرهاق وظل باسم يلعب على الكمبيوتر الذي تنطلق منه الأصوات المفزعة.
قالت سميرة لباسم انه حان الوقت للنوم ولكنه تصنع عدم السمع فكررت عليه القول.
رد باسم قائلا ان غداً اجازة وانه عادة يسهر يوم الخميس الى وقت متأخر
قالت سميرة : هذا فى بيتكم ولكن هنا الناس تنام فى الثانية عشرة مساءا على الأكثر .. أغلق الكمبيوتر وتوجه ألى حجرة النوم.
لم يستطيع باسم ان يقاوم حزم الأنسة سميرة وترك الكمبيوتر مضطرا وتوجه ألى حجرة النوم.
حملت سميرة هايدي إلى السرير فى حجرة نوم أمها دون ان تغير لها ملابسها وهناك خلعت ملابسها وارتدت لباس النوم بطريقة أنيقة لم تتعود عليها من قبل فقد تعودت على النوم وحدها ولكن الليلة معها ضيفة ولو انها صغيرة ولكن لا بد ان تبدوا أنيقة امامها فحتما ستذهب ألى والدتها وتقص عليها كل ما رأت فى ليلة سميرة الغريبة.
همت سميرة بالتمدد جوار هايدي ولكن هايدي استيقظت فجأة وجلست على السرير وعيونها تدور فى هذا المكان الغريب عليها وعبس وجهها وهمت بالبكاء وهى تقول فين ماما. أسرعت سميرة تهدهدها وتقول لها ان ماما مسافرة وستعود غداً ويبدوا ان هايدى استوعبت ما قالته سميرة وعادت إلى النوم ولكنها التصقت بجسد سميرة التى إقشعر بدنها لهذا الحضن الدافيء من هايدي. كانت هايدى أثناء نومها تتبع انفاس سميرة وتلصق خدها بخدها وتدفن يديها فى صدرها وكأنها تريد ان تلتحم بها عضويا طلبا للأمان فى غياب الأم الحقيقية. قلقت سميرة فى البداية فى نومها ولكنها سكنت اخيرا إلى هذه الروح التى هبطت عليها من السماء لتشاركها سرير أمها فى اول ليلة تنام فيه.
إستيقظت سميرة فى صباح الجمعة مبكرا كعادتها ودارت على نباتاتها فى البلكونة لترويهم وتنظفهم وتضع الطعام لعصفورها الصابر الأسير ولتسمع تغريده الذي هو اقرب للبكاء والشكوى من الوحدة التى يعيشها فى سجنه وكأنه نسخة اخري من حياة سميرة الشخصية. عادت سميرة إلى مطبخها لتعد الإفطار لضيوفها قبل ان توقظهم من النوم ولكنها شاهدت احمد يدخل إلى الحمام ولكن ملامح وجهه بعد النوم مختلفة بعض الشيء. إنتظرت حتى خروجه من الحمام واوقفته لتفحص وجهه وكان متورما على غير العادة وبه بقع حمراء واضحة. إنزعجت سميرة للغاية وقالت لاحمد ماذا جري لك، لم يجيب احمد وحاول التملص من يدها وهو يقول دي حساسية من البيض.
قالت سميرة: ولماذا اكلت بيض ولديك حساسية منه
قال: لأنى بحبه ثم أفلت منها وذهب ألى سريرة ليواصل النوم.
هرولت سميرة منزعجة ألى الكمبيوتر لتبحث عن حساسية البيض فى النت وما هي توابعها حتى عثرت على إجابات مختلفة عن مشكلة الحساسية للبيض واطمئنت بعض الشيء على ان الامر لن يتطور سريعا قبل ان يصل والديه من البلد.
ظل الأطفال نائمون حتى الثانية عشرة صباحا حيث استيقظ الجميع استعدادا للإفطار.
رفعت سميرة بند البيض من قائمة الافطار وكان الحليب والجبن والمربي والعسل متاحا للأطفال الذين تناولوا الإفطار بصعوبة بالغة وتلكؤ شديد لولا ضغط سميرة وتهديدها بعدم تلبية رغبتهم فى تناول الهمبورجر والبطاطس المقلية فى الغذاء.
عرفت سميرة الطريق لإطعام الأطفال فى الغذاء فى يومهم التالى وهي التى نادرا ما تطبخ فجهزت لطلب ساندوتشات الهامبورجر ووجبات الأطفال التى يحبونها ومعها لعب صغيرة من البلاستيك يرغب فيها المحل فى شراء وجباته وهذا لم تعهده سميرة من قبل ولم تتصور كم تكلف هذه الوجبات وكيف تدبر الأسر أمرها فى إطعام أطفالها وتحقق لهم رغباتهم.
بعد تناول الغذاء دق جرس الأنسة سميرة وإذ بأم الأطفال تقف امام الباب لتشكر الأنسة سميرة وتطلب عودة اولادها. سمعت هايدى صوت أمها فهرولت إليها وحضنتها بينما تثاقل الولدان فى الخروج وأخذ كل منهم يجمع أغراضه ببطء وكأنهما لا يريدان العودة الفورية إلى بيتهم
يوم من أيام سميرة
د. محمد المليجي
عادت الآنسة سميرة من عملها فى الثالثة عصرا، أوقفت سيارتها فى نفس المكان المعهود الذي تقف فيه كل يوم ، وتغضب كثيرا اذا حاول احدا من الجيران إيقاف سيارته فيه.
نادرا ما يسمع أحد صوتها إلا وهي تعاتب البواب لأن احد الجيران استولي على موقف سيارتها. تدخل شقتها وتغلق بابها ولا تظهر أبدا إلا لشيء واحد وهو الضجة التى يحدثها أولاد الجيران امام شقتها. هؤلاء الأشقياء يضربون الكرة فى بابها مرات ومرات فتخرج لتوبخهم او تأخذ الكرة منهم وتحتجزها لبعض الوقت قبل ان تلقى بها على السلم.
لا يعرف أحد شيئا عن الآنسة سميرة التى تجاوز عمرها الأربعين عاما. لم تتزوج بعد ولم يري أحدا لها أقارب أو أصدقاء يزورونها. ولا يعرف الجيران ما هي وظيفتها وما هو نوع العمل الذي تقوم به .
إنها إمرأة جادة فى كل علاقاتها بالسكان وجادة في مظهرها العام الذي يدل على انها تقوم بوظيفة مهمة. قد تكون محامية او موظفة فى السلك الدبلوماسي ولكنها فى كل الأحيان غامضة تماما، فلا تختلط بأحد من السكان ولا تعرف منهم إلا عم سعيد البواب، الذي تكلفة أحيانا بجلب بعض احتياجاتها من السوق.
كان أطفال الجيران هم المنغص الوحيد لحياتها بسبب ضجتهم وعدم اكتراثهم بموعد راحتها بعد العصر. أصبحت أجازتهم الصيفية مصدر متاعب كثيرة لها، حيث يسهرون حتى الصباح ويركلون الحوائط والسقوف بأقدامهم فيقضون مضجعها، ولا سبيل للتحكم فى ذلك.
عادت الأنسة سميرة من العمل إلى بيتها يوم الخميس تحمل بعض متطلبات حياتها اليومية. فهي تعد لقضاء نهاية أسبوع هادئة تستريح فيها من عناء أسبوع عمل شاق، وكعادتها عندما تدخل الشقة تخلع حذائها عند الباب وتتجرد من ملابسها الخارجية، وتنطلق بحرية فى شقتها بعد ان تشعل أسطوانة موسيقى هادئة تستمع إليها وهى تعد غذاء لفرد واحد.
وأثناء اعدادها للغذاء دق جرس الباب على غير العادة فى مثل هذا الوقت. تركت سميرة المطبخ وذهبت إلى الباب ونظرت من عينه السحرية لتجد وجه جارتها والدة الأطفال الثلاثة الذين يقضّون مضجعها دائما.
ارتدت الآنسة سميرة ملابسها بسرعة وفتحت الباب لتجد جارتها التى كانت تراها فقط لتشكو لها من شقاوة ابنائها وقد وقف بجانبها اولادها الثلاثة كل يحمل حقيبة فى مثل حجمة تقريبا.
.
وقفت الآنسة سميرة خلف الباب وقد تجمدت أوصالها من وقع كلام جارتها الذي كان كطلقات الرصاص المتعاقبة التى وجهت اليها دون سابق إنذار. لم تصدق سميرة فى البداية ما تسمع وقبل ان ترد بكلمة كانت الجارة قد التفتت للخلف وتركت اطفالها يحملون حقائبهم الكبيرة التى تعج باللعب والأشياء الغريبة على الآنسة سميرة.
لم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت حتى استوعبت سميرة الموقف وأنها اصبحت فجأة مسئولة عن ثلاثة اطفال لأول مرة فى حياتها وبدون مقدمات.
لم يمهل الأطفال الثلاثة سميرة لحظات للتفكير وتسرب الأطفال الثلاثة مباشرة من الباب كالزئبق إلى شقة الأنسة سميرة وانتشروا بسرعة كالغزاه يكتشفون الشقة وقد ألقى كل منهم بحقيبته فى ركن من المكان.
وقفت سميرة مندهشة لما يحدث فى بيتها وكان كبيرهم باسم ذو العشرة سنوات يدور فى الشقة كالنحلة ليبحث عن شيئا ما ولم يجده فوقف أمام سميرة المذهولة يسألها
اين الكمبيوتر بتاعك يا أبله سميرة ؟
قالت سميرة:
ماذا تريد من الكمبيوتر
نظر اليها باسم باستغراب وقال:
اريد ان العب عليه
قالت:
ليس به ألعاب
قال:
بسيطة هل لديك نت
قالت:
نعم
قال:
سأحمل كل الألعاب التى أريدها ، وأثناء حديث سميرة مع باسم كان احمد ابن الثامنة يعبث بتلفزيون سميرة يحاول ان يركب أسلاكه ولعبه
جرت سميرة نحو أحمد تستفسر منه عما يفعل بالتلفزيون فنظر إليها بإستغراب ولم يرد وباشر فى محاولاته لتوصيل اجهزته بالتلفزيون وقبل ان تحاول سميرة منعه كانت الصغيرة هايدي بنت الأربعة سنوات تجذبها من يدها وتقول لها:
فين الحمام انا مزنوقة على الآخر.
هرولت سميرة بهايدي إلى الحمام وهى لا تعرف ماذا تفعل مع الطفلة لتساعدها ولكن هايدا حللت المشكلة وقالت لها:
انتظري خارج الحمام ولو احتجت مساعدتك سأناديكي.
وقفت سميرة امام باب الحمام حتى انتهت هايدي من مهمتها وخرجت دون طلب مساعدة وقالت لسميرة:
غسلت يداي بعد ما انتهيت زي ماما ما قالت.
نظرت إليها سميرة وقالت:
شاطرة.
قالت هايدي:
هما فين ولادك علشان ألعب معاهم
صمتت سميرة للحظات وقالت:
انا معنديش ولاد يا هايدي وممكن تلعبى مع اخواتك
قالت هايدي :
اخواتى مش بيرضو يلعبوا معايا وبيضربونى علشان أنا أصغر منهم
وقفت سميرة حائرة ماذا تفعل مع هؤلاء الغزاة الجدد وكل منهم قد احتل مكان فى شقتها بمنتهى الجرأة والسرعة وهى مكتوفة الأيدي.
تذكرت فجأة انها لم تعد غذائها وقد تركت كل شيء فى المطبخ حين دق جرس الباب. ذهبت إلى المطبخ لتعد الغذاء ولكن تغير الموقف الآن فلديها ثلاث ضيوف صغار لا بد انهم جائعون، ولكن ماذا يأكل الأطفال؟
لم تعرف سميرة من قبل كيف تقدم وجبات لأطفال صغار وبيتها يخلوا من كل شيء يمت للأطفال بصلة.
فكرت سميرة فى ان تتصل بزميله لها فى العمل وهي ام لطفلين لتستعين بها فى كيفية إطعام الأطفال. ولكنها اقلعت عن الفكرة خوفا من ان يفتضح امرها بالعمل ويتندر عليها أصدقائها وهم يعرفون انها تكره كل شيء يمت للأطفال بصلة خاصة اولاد جيرانها الأشقياء.
خرجت سميرة من المطبخ وهى تتحسس الطريق وكان كبيرهم منهمك فى تحميل لعبه من النت والآخر بدأ يلعب كالمجنون امام التلفزيون فيقفذ لأعلى ويلوح بيديه ويرسل ضربات فى الهواء وكأنه يصارع جن غير مرئي وكلما اقتربت منه هايدي لتؤدي بعض الحركات لكمها وأبعدها عنه.
ذهلت سميرة للمنظر فلم تري مثل ذلك من قبل وبعد برهة قالت بصوت متقطع وخجول:
هل ترغبون فى الغذاء ؟
سمع الجميع سؤالها بسهولة رغم الضجة وصاحوا جماعة … هيه .. الغذاء جاهز
قالت: الغذاء ليس جاهزا بعد ولكن ماذا تحبون ان تأكلون، وليتها لم تسأل هذا السؤال فقد صاح الثلاثة كل يطلب شيئا لا تعرفه وهي تقف عاجزة عن الفهم، ولكنها تذكرت شيئا تعرفه جيدا فى حياتها وهو الحزم، فوقفت منتصبة امام الأطفال الثلاثة وقالت:
كل اللى عندي تونة ومكرونة وفراخ مشوية ما هو اختياركم.
نظر الأطفال إليها بإحتقار شديد كاد يفجرها ولم يرد أي منهم عليها وواصلوا لعبهم وفضلوا الجوع على تناول ما تفرضه عليهم الآنسة سميرة.
وقفت سميرة عاجزة عن التصرف ولا يمكن ان تأكل وتتركهم بلا غذاء.
جلست سميرة على الكنبة تجتر غيظها وهي تفكر في المشكلة ونظرت إليها هايدي الصغيرة المنبوذة من إخوانها ثم دنت منها كالقطة وجلست ملتصقة بفخذها ثم أمسكت بيدها وبدأت تلعب فى أصابعها وأحست الأنسة سميرة بشعور غريب يجتاح جسدها بملامسة هذه الطفلة لأصابعها وبدأ الشعور بالغيظ ينطفيء وبأعصابها ترتخى كأنها فى جلسة تدليك.
وجدت سميرة يدها تمتد لتمسح برأس هايدى ونظرت إليها هايدى قائلة:
انا احب البيض كثيرا فهل لديك بيض؟ قالت سميرة :
نعم لدي بيض
قالت هايدي:
ولكنى احب البتزا اكثر وكذلك باسم وأحمد ولكن ماما ترفض شرائها لنا وتصنعها فى البيت ونحن لا نحب البتزا المصنوعة فى البيت.
كانت فكرة ذكية من هايدى الصغيرة انتبهت لها سميرة فنهضت من مكانها وقالت للجميع هل تحبون البتزا؟
صاح باسم واحمد وقالوا نعم نحبها كثيرا ولكن مع البطاطس والكاتشاب والبيبسي
قالت سميرة:
سأطلب لكم بيتزا وسأبحث عن رقم التوصيل للمنازل
قال باسم:
أنا احفظ الرقم وهو ….. وكان فعلا يحفظ الرقم عن ظهر قلب بينما لم تطلب سميرة فى حياتها اي مأكولات من الخارج قبل ذلك اليوم.
طلبت سميرة لأول مرة فى حياتها البيتزا التى وصلت خلال ساعة واحدة استغلتها سميرة لتجمع فيها أشياءها المتناثرة خوفا من ان تقع فى أيدى الأطفال.
رفعت سميرة لأول مرة من سنوات ذلك المفرش العتيق الذي تغطى به طرابيزة السفرة والكراسي التى تحيط بها فقد تعودت ان تاكل فى المطبخ وهى واقفة غالبا ثم تذهب لترتمى على الكنبة امام التلفزيون وهي تعبث بجهاز الكمبيوتر وتقضي بعض أعمالها عليه حتى يحل موعد النوم.
حضرت البتزا وأكل الأطفال بنهم وانتثر الببسي على الطاولة بيد احمد سريع الحركة وسال على السجاد العتيق وتناثرت بقايا اللحم المفروم والكاتشاب فى كل مكان واصيبت سميرة بالاكتئاب المؤقت وهى تحاول تنظيف أثار غزوة البتزا والببسي.
انتهى الجميع من الغذاء وتصورت سميرة انها استطاعت ان تنجز مهمة الغذاء لضيوفها العفاريت الصغار. ولكن هيهات فقد وقف أحمد قائلا اين الآيس كريم يا أبله سميرة ؟
ردت هايدى وقالت:
ماما قالت لنا نقول لها يا ماما سميرة مش يا ابله سميرة
قال احمد:
فين الآيس كريم يا ماما سميرة؟
وقفت سميرة عاجزة مرة أخري وهي تسمع لأول مرة فى حياتها من يناديها بماما وصمتت قليلا ثم تداركت الموقف وذهبت الى المطبخ وضغطت على زر لجرس يدق فى حجرة عّم سعيد البواب الذي صعد السلم مهرولا لأن الأنسة سميرة نادرا ما تطلبه فى هذا الوقت من اليوم
حضر عّم سعيد ووقف على الباب يقول:
خير يا ست سميرة.
قالت سميرة:
عايزة آيس كريم يا عّم سعيد للولاد
تعجب عّم سعيد من طلب سميرة ولكنه توقف عن تعجبه عندما رأي هايدي تجري لتقف بجوار سميرة
احضر سعيد الآيس كريم الذي أكله الضيوف بحرفية شديدة فى بضع دقائق.
سأل باسم ماما سميرة عن مكان النوم لانه يريد ان يضع بعض محتويات حقيبته جوار سريرة.
كانت شقة سميرة تحتوي حجرتين للنوم احدهما كانت لوالدتها التى توفيت منذ سنوات فأغلقت سميره الحجرة كما هي من يوم وفاة والدتها ولم تستخدمها أبدا رغم حرصها على تنظيفها من وقت إلى آخر الا ان ملابسها ظلت معلقة فى دولابها كما تركتها يوم وفاتها.
وقفت سميرة حائرة كيف ترد على باسم ولكنها قررت بسرعة ومنعا للإحراج ان ينام باسم وإخوته فى حجرتها هي وأن وتقضى هي الليلة فى حجرة أمها المغلقة او على الكنبة امام التلفزيون.
أسرعت سميرة إلى حجرة نومها لترتبها وتخفى ملابسها المتناثرة هنا وهناك وكانت هايدي فى كعبها تحاول كإبنة صغيرة ان تساعد أمها فى ترتيب الحجرة بأناملها الصغيرة وبعد ان فردت سميرة ملاءة جديدة على السرير وقفت هايدي متعجبة وهى تسال سميرة قائلة:
اين المفرش البلاستيك؟
قالت سميرة:
لماذا المفرش البلاستيك؟
قالت هايدي:
ماما بتحط مفرش بلاستيك تحت الملاية علشان احمد بيبل نفسه وهوا نايم
تنبهت سميرة للموقف وبحثت عن مفرش بلاستيك تستخدمه فى السفرة ووضعته بالفعل تحت الملاءة وشكرت هايدي على نصيحتها الثمينة التى جنبت سرير سميرة من العطب.
أرشدت سميرة الولدين إلى مكان نومهما فى حجرتها، ولكن هايدي لم تحاول الانضمام إليهما ووقفت ملتصقة بسميرة وهي تمسك بيدها وتهمس لها :
انا لن انام معهم .. انا سانام معكي مثل ما انام مع ماما.
نظرت إليها سميرة ولم تتكلم وهى التى لم ينام فى حضنها أحد قط من قبل، فكيف ستتصرف مع هذه القادمة الصغيرة التى تطلب ببساطة شديدة ان تنام معها.
وكانت سميرة قد تعودت ان تري الأخبار وتتابع بعض المسلسلات التلفزيونية فجلست امام التلفزيون لتقلب قنواته ولكن كانت الكثير من أسلاك لعبة احمد قد امتدت إليه فحاولت ان تعيد الأمور إلى طبيعتها حتى تشاهد برامجها وأثناء ذلك سمعت صراخ وضجة فى حجرة النوم فتركت التلفزيون وهرولت إلى حجرة نومها لتجد احمد وباسم مشتبكين بالايدي ويركل كل منهم الآخر فأمسكت بهما وفرقتهما وهى تسأل بحدة إيه الحكاية .. فيه إيه يا ولاد.
بكى احمد وقال باسم ضربنى علشان إخترت انام بره على السرير مش جوه لانى مش بحب انام جوه.
قالت بره إيه وجوه إيه كله واحد والكبير يختار الاول
قال احمد بس انا باروح الحمام كتير بالليل
نظرت سميرة للسرير المركون جوار الحائط وقررت سحب السرير للخارج حتى تتيسر مسافة حول السرير من الجهتين وحلت المشكلة بهذه الطريقة وعادت لتتابع برامجها التلفزيونية وعاد الولدان لمتابعة العابهما وكانت هايدي قد جلست تعبث بمفاتيح الكمبيوتر بينما انشغلت هيا بمتابعة الأخبار.
عاد الولدين من حجرة النوم ليواصلا لعبهما حتى يحين موعد نومهما الذي يكون دائما متأخر فى الإجازات.
جلس الولدين غاضبين من هذا الاحتلال النسائي لألعابهما ولم يصبر باسم كثيرا وذهب لأخته يقول لها أمامك خمسة دقائق وتتركي الكمبيوتر فاستغاثت بماما سميرة التى تدخلت وطلبت ان يتركها باسم تلعب ربع ساعة فقبل على مضض.
وقف احمد متنمرا وهو يراقب سميرة تشاهد الأخبار وقال لها وحضرتك ح تخلصى إمتا وترجعيلى التلفزيون.
شعرت سميرة بالحرج امام هذا الطفل الذي يجلس منتظرا حتى تفرغ من سماع الأخبار فتركت التلفزيون فورا وسلمته له واتجهت إلى المطبخ تفكر فى عشاء الضيوف فلن تستطيع طلب بتزا مرة أخري للعشاء وقررت ان تفرض رأيها فى العشاء دون استشارة الأطفال.
صنعت طبق كبير من البيض المقلى ووضعت بعض الجبن والزبادي والمقرمشات والخبز والعسل والعصائر على طاولة السفرة وصفقت لتنبه الأطفال بان العشاء جاهز.
إستغرب الأطفال من هذا التصرف الدكتاتوري للآنسة سميرة التى لم تسألهم ماذا يأكلون فى العشاء، تحرك الأطفال نحو السفرة وهم يفحصون الطعام الموضوع عليها ويتردون فى الجلوس حتى صاحت سميرة بحزم: سأرفع الطعام من الطاولة بعد نصف ساعة ومن لا يأكل سينتظر للصباح، جلس الأطفال على الكراسي وبدأ كل منهم ينتقى ما يحب ان يأكل وكان البيض المقلى سيد السفرة وانتهى العشاء على خير.
جلست هايدي بجوار سميرة على الكنبة وهى تحملق فى ملامحها وتسألها الكثير من الأسئلة المحرجة احيانا بينما استمر الأولاد فى لعبهم حتى غفت هايدى وتوقف احمد عن اللعب فجأة واتجه مباشرة إلى حجرة النوم من فرط الإرهاق وظل باسم يلعب على الكمبيوتر الذي تنطلق منه الأصوات المفزعة.
قالت سميرة لباسم انه حان الوقت للنوم ولكنه تصنع عدم السمع فكررت عليه القول.
رد باسم قائلا ان غداً اجازة وانه عادة يسهر يوم الخميس الى وقت متأخر
قالت سميرة : هذا فى بيتكم ولكن هنا الناس تنام فى الثانية عشرة مساءا على الأكثر .. أغلق الكمبيوتر وتوجه ألى حجرة النوم.
لم يستطيع باسم ان يقاوم حزم الأنسة سميرة وترك الكمبيوتر مضطرا وتوجه ألى حجرة النوم.
حملت سميرة هايدي إلى السرير فى حجرة نوم أمها دون ان تغير لها ملابسها وهناك خلعت ملابسها وارتدت لباس النوم بطريقة أنيقة لم تتعود عليها من قبل فقد تعودت على النوم وحدها ولكن الليلة معها ضيفة ولو انها صغيرة ولكن لا بد ان تبدوا أنيقة امامها فحتما ستذهب ألى والدتها وتقص عليها كل ما رأت فى ليلة سميرة الغريبة.
همت سميرة بالتمدد جوار هايدي ولكن هايدي استيقظت فجأة وجلست على السرير وعيونها تدور فى هذا المكان الغريب عليها وعبس وجهها وهمت بالبكاء وهى تقول فين ماما. أسرعت سميرة تهدهدها وتقول لها ان ماما مسافرة وستعود غداً ويبدوا ان هايدى استوعبت ما قالته سميرة وعادت إلى النوم ولكنها التصقت بجسد سميرة التى إقشعر بدنها لهذا الحضن الدافيء من هايدي. كانت هايدى أثناء نومها تتبع انفاس سميرة وتلصق خدها بخدها وتدفن يديها فى صدرها وكأنها تريد ان تلتحم بها عضويا طلبا للأمان فى غياب الأم الحقيقية. قلقت سميرة فى البداية فى نومها ولكنها سكنت اخيرا إلى هذه الروح التى هبطت عليها من السماء لتشاركها سرير أمها فى اول ليلة تنام فيه.
إستيقظت سميرة فى صباح الجمعة مبكرا كعادتها ودارت على نباتاتها فى البلكونة لترويهم وتنظفهم وتضع الطعام لعصفورها الصابر الأسير ولتسمع تغريده الذي هو اقرب للبكاء والشكوى من الوحدة التى يعيشها فى سجنه وكأنه نسخة اخري من حياة سميرة الشخصية. عادت سميرة إلى مطبخها لتعد الإفطار لضيوفها قبل ان توقظهم من النوم ولكنها شاهدت احمد يدخل إلى الحمام ولكن ملامح وجهه بعد النوم مختلفة بعض الشيء. إنتظرت حتى خروجه من الحمام واوقفته لتفحص وجهه وكان متورما على غير العادة وبه بقع حمراء واضحة. إنزعجت سميرة للغاية وقالت لاحمد ماذا جري لك، لم يجيب احمد وحاول التملص من يدها وهو يقول دي حساسية من البيض.
قالت سميرة: ولماذا اكلت بيض ولديك حساسية منه
قال: لأنى بحبه ثم أفلت منها وذهب ألى سريرة ليواصل النوم.
هرولت سميرة منزعجة ألى الكمبيوتر لتبحث عن حساسية البيض فى النت وما هي توابعها حتى عثرت على إجابات مختلفة عن مشكلة الحساسية للبيض واطمئنت بعض الشيء على ان الامر لن يتطور سريعا قبل ان يصل والديه من البلد.
ظل الأطفال نائمون حتى الثانية عشرة صباحا حيث استيقظ الجميع استعدادا للإفطار.
رفعت سميرة بند البيض من قائمة الافطار وكان الحليب والجبن والمربي والعسل متاحا للأطفال الذين تناولوا الإفطار بصعوبة بالغة وتلكؤ شديد لولا ضغط سميرة وتهديدها بعدم تلبية رغبتهم فى تناول الهمبورجر والبطاطس المقلية فى الغذاء.
عرفت سميرة الطريق لإطعام الأطفال فى الغذاء فى يومهم التالى وهي التى نادرا ما تطبخ فجهزت لطلب ساندوتشات الهامبورجر ووجبات الأطفال التى يحبونها ومعها لعب صغيرة من البلاستيك يرغب فيها المحل فى شراء وجباته وهذا لم تعهده سميرة من قبل ولم تتصور كم تكلف هذه الوجبات وكيف تدبر الأسر أمرها فى إطعام أطفالها وتحقق لهم رغباتهم.
بعد تناول الغذاء دق جرس الأنسة سميرة وإذ بأم الأطفال تقف امام الباب لتشكر الأنسة سميرة وتطلب عودة اولادها. سمعت هايدى صوت أمها فهرولت إليها وحضنتها بينما تثاقل الولدان فى الخروج وأخذ كل منهم يجمع أغراضه ببطء وكأنهما لا يريدان العودة الفورية إلى بيتهم ولكن كانت امهم لهم بالمرصاد وهى تقول كفاية إزعاج لجارتنا وانصاع الأطفال وانسحبوا من شقة سميرة وهى تقف لا تدري ماذا تقول لجارتها التى جمعت اطفالها ورحلت إلى شقتها التى تقع فى الطابق الأعلى.
اغلقت سميرة باب شقتها وجلست على الأريكة جلستها المعتادة وقد عاد الصمت وحل السكون فى كل ارجاء المكان وشعرت بفراغ شديد تركته زيارة الأطفال العابرة وتعثرت أصابعها بقطعة من البلاستيك كانت فى شعر هايدي فأمسكت بها ووجدت نفسها تقبلها وتشم رائحة هايدي بها. وهناك على البعد ترك باسم الكمبيوتر وشاشته مشغولة باللعبة التى كان يلعب بها. وتلك الفوضى الجميلة حول التلفزيون التى صنعها احمد.
جلست سميرة تتذكر هؤلاء العرسان الخمسة الذين رفضت كل منهم لسبب او لآخر وكانت دائما حريصة على عملها ومستقبلها وكان من الممكن ان يكون اي منهم زوجا وابا لأولادها لو تنازلت قليلا عن شروطها القاسية أحيانا فى الزواج. احست سميرة بألم الوحدة وقسوة الحرمان من الحياة الأسرية رغم عذابها اليومي مع تربية الأطفال ولكنه قطعا عذاب له طعم وألم تتحمله الأبدان وأفضل كثيرا من الوحدة. بكت سميرة لأول مرة فى حياتها بعد وفاة أمها ورفعت رأسها نحو اللوحة المعلقة على حائطها والتى كتب عليها ” قدر الله وما شاء فعل” وتأملت فيها للحظات حتى سكنت نفسها وهدأت مشاعرها بعد ان انتهت غزوة اطفال الجيران على غير رغبتها.
تركته زيارة الأطفال العابرة وتعثرت أصابعها بقطعة من البلاستيك كانت فى شعر هايدي فأمسكت بها ووجدت نفسها تقبلها وتشم رائحة هايدي بها. وهناك على البعد ترك باسم الكمبيوتر وشاشته مشغولة باللعبة التى كان يلعب بها. وتلك الفوضى الجميلة حول التلفزيون التى صنعها احمد.
جلست سميرة تتذكر هؤلاء العرسان الخمسة الذين رفضت كل منهم لسبب او لآخر وكانت دائما حريصة على عملها ومستقبلها وكان من الممكن ان يكون اي منهم زوجا وابا لأولادها لو تنازلت قليلا عن شروطها القاسية أحيانا فى الزواج. احست سميرة بألم الوحدة وقسوة الحرمان من الحياة الأسرية رغم عذابها اليومي مع تربية الأطفال ولكنه قطعا عذاب له طعم وألم تتحمله الأبدان وأفضل كثيرا من الوحدة. بكت سميرة لأول مرة فى حياتها بعد وفاة أمها ورفعت رأسها نحو اللوحة المعلقة على حائطها والتى كتب عليها ” قدر الله وما شاء فعل” وتأملت فيها للحظات حتى سكنت نفسها وهدأت مشاعرها بعد ان انتهت غزوة اطفال الجيران على غير رغبتها.