ا. د. محمد المليجي
كنت على سفر بالطائرة وبعد ان وصلنا المطار وجلسنا فى صالة الاقلاع فوجئنا بتأجيل موعد الطائرة لساعة ثم لساعتين ثم لأكثر. حتى الغيت الرحلة تماما بسبب عواصف هبت على المنطقة وتوقف الطيران تماما من هذا المطار. قضينا بالمطار خمس ساعات فى الانتظار قبل ان ننصرف لنعود بعد يومين.
تقابل في المطارات صنوفا من البشر وتشاهد سلوك الناس فى الأزمات. وتظل تشغل نفسك بالقراءة والقهوة وبعض المقبلات لتقتل الوقت.
ولكنك تهتم احيانا باحوال من يجذبون انتباهك من الناس حولك بحركاتهم وافعالهم غير المعتادة.
شغلتني أسرة من اصول هندية تتكون من زوج وزوجة وولدين وكان الزوج فى نهاية الاربعينات، ولكنه ربما تعرض لبجلطة او سكتة دماغية أثرت على جانبه الأيسر وعلى نطقه وكان يسير بصعوبة، اما الزوجة فهى فى قمة نشاطها ولا تتوقف عن الكلام بصوت مرتفع نسبيا.
عندما تأجل اقلاع الطائرة فى المرة الاولى كانت المرأة الهندية هى اول من اذاع الخبر على الناس بصوت مرتفع بعد ان تركت مقعدها بجوار زوجها وانتقلت لتجلس امامنا. ظلت تنبه كل الجلوس بالخبر وخاصة الذين لا يرون لوحة الاعلانات.
انتهت من التبليغ الاول وعادت الى زوجها الغاضب وبدأت معركة داخلية مع الزوج والأولاد. سبب الخلاف ان الزوج غير قادر على ان يحدد ماذا تشتري له ليأكل.
بدي الزوج المعوق رغم شبابه يعبر عن غضبه أكثر. وهى تأكد له انها ستأتى له بما تختار، ولولا تدخل الإبن الأكبر واحتضانه لوالده لحدثت مشاجرة بين الزوجة البدينة ذات الصوت المرتفع والزوج العاجز عن التعبير الا بالوقوف والجلوس والغضب الواضح فى نظرته العاجزة.
ظل هذا الفيلم الهندي حتى اعلنت نفس السيدة للجميع عن الغاء الرحلة بالكامل ووقفنا جميعا فى الطابور لنحجز رحلة اخري حسب الجدول.
عدنا بعد ٤٨ ساعة لنواصل السفر من نفس المطار وكانت الطائرة فى موعدها هذه المرة وانتظرنا فى صالة الركوب الى الطائرة. مرت امامنا سيدة أمريكية مسنة وزوجها مثلها وكان الزوج يجلس على عربة تتحرك ذاتيا ولكنها فى غاية الاناقة وقمة التكنولوجيا.
كان الرجل نفسه انيقا رغم عمره وكانت زوجته ايضا انيقة تمشى خلفه وتمعن النظر فى زوجها وتحرص على ان تلبى له اي طلب بسرعة. أحضرت له كوب من القهوة وحاولت وضع الكوب فى يده المرتعشة بعناية وقد وقفت متأهبه بمنديل من الورق لا يشغلها اي شيء الا زوجها الذي يبدوا انه كان رجل صاحب منصب ويحمل كبرياء واضح رغم عجزه.
شعرت ان الزوجة رغم تقدم العمر تحب هذا الرجل وهو يحبها وتفهم جيدا سلوكه وتقبل بكبرياءه رغم مرضه. وتذكرت اغنية ام كلثوم جددت حبك ليه حين تقول ” ياللى قضيت العمر معاك … أرضى جفاك … واتمنى رضاك”
نظرت إلي زوجتى التى تجلس جواري وهي منشغلة بقراءة القرآن ولكنها كعادتها تراقبنى بطرف عينها وتفهم جيدا كل ما يدور بخيالى وتراقب معى نفس المشهد.
قلت لها دون ان انطق نحن والحمد لله من هذا الصنف من الناس ولكن من سيدفع عربة بمن فهذا علمه عند الله، ولكن فى كل الاحوال فالحب والعشرة الطويلة بين الزوجين تهون الصعاب خاصة بعد ان يمتد بالزوجين العمر وينشغل عنهم الابناء وينفض الاصدقاء بسبب العجز او الموت او السفر ولا يبقى للزوج الا الزوجة ولا للزوجة الا الزوج.
رصيد العمر من الحب والتسامح والاخلاص بين الزوجين هو الوقود ومصدر الدفيء فى أخر ايام الحياة عندما يتقدم بنا العمر وتبرد الاطراف وتسكن العواطف الجياشة وترتعش الاعصاب وتؤلم المفاصل وتتقلص الطموحات وتصبح المشاوير للعيادات عادة.
ربما لم تصل الاسرة الهندية الى نضج العشرة بين الزوجين بعد، فلم تستطيع الزوجة ان تعامل زوجها المريض رغم صغر عمره بنفس الطريقة التى تتعامل بها زوجة الرجل المسن فى الاسرة الامريكية.
بحثت بسرعة فى تليفونى عن اغنية ام كلثوم الخالدة “ جددت حبك ليه ” ووضعت السماعات فى أذني لأستمتع بها حتى يحين اقلاع الطائرة.