نوران
دكتور محمد المليجي
( هذه قصة حقيقية عاشها الكاتب في طفولته ولم تغادر مخيلته حتى شيخوخته فهى مزج من الحقيقة وقليل من الخيال كما هي حياتنا تماما)
فجأة أصبحت مدرسة قريتنا الابتدائية آيلة للسقوط وكان لا بد من إغلاقها خوفا على أرواح التلاميذ ونتج عن ذلك أن تفرق أبناء القرية إلى مدارس القرى المجاورة حتى يتم بناء مدرسة جديدة. تسببت هذه المشكلة في أزمة تعليم بقريتنا حيث توقف الكثير من التلاميذ عن الدراسة بالكامل واتجهوا إلى تخصصات أخري أكثر أهمية
مثل نقاوة اللطع وجمع القطن في الحقول وعادت بعض الفتيات إلى الخبيز وحمل جرار المياه وتوصيل الغذاء إلى أبيها في الحقل. ببساطة تأخر التعليم في قريتنا لسنوات عديدة بغلق المدرسة الابتدائية الوحيدة التي كانت تقطن في بيت مستأجر في شرق القرية.
أما عن العبد لله الذي كان في الرابعة الابتدائية فقد تم نقلى إلى مدرسة المنشية ألصغري الابتدائية وهى القرية التي يشغل فيها جدي من أمي منصب عمدة القرية، أحدثت عملية إنتقالى من قرية صندلا الى بيت جدي العمدة في قرية المنشية صدمة كبيرة في البداية يحث وجدت نفسي في بيت كبير مزدحم بالحركة والبشر والأطفال فكان لدي خمسة من الأخوال وخمسة من الخالات وغالبيتهم متزوج ولديه أطفال والكل قد يجتمع في هذا البيت الكبير يوميا، وبعد خصوصيتي في بيت أبى وجدت نفسي وأنا لم أتجاوز العاشرة من العمر تائها وسط هذا الزحام فلا أجد أبى أو أمي أو جدتي أو حجرتي الخاصة التي تعودت عليها في بيتنا وشعرت بالحزن الشديد لهذا التغيير في البداية. ولكن احتضان جدي وجدتي لى سريعا أنساني هذا الشعور خاصة أنى أصبحت سريعا مجال اهتمام جدي الذي كان يصحبنى معه دون باقي أحفاده إلى مجالسه ومقابلاته مع الناس وكان يسعد بطرفتي المبكرة في الحديث ولا يتردد أن يسألني ضاحكا وهو يجلس مع الناس إيه رأيك يا محمد في هذا الموضوع وكنت أقول رأيى المازح دائما وينطلق الجميع في الضحك لتعليقي الغريب أحيانا.
بدأ العام الدراسي بالمدرسة الابتدائية وكانت مدرسة مختلطة بمعنى الكلمة حيث يجلس الأولاد والبنات في نفس الفصل والمسلمين والمسيحيين متجاورين في نفس التختة، وكان هذا جديدا عليا فلم أشاهد مصريا قبطيا من قبل وكنت أظن أن الأقباط ذوى أشكال وأحجام مختلفة عن المسلمين حيث تخلو قريتنا من الأقباط ولكن في قرية المنشية يوجد حوالى 20% من سكانها أقباط يعيشون في سلام مع المسلمين وبينهم ألفة تامة لم يعكر صفوها ذات يوم إلا خناقة حدثت بين تلميذ مسلم نهر تلميذ قبطى بقوله يا قبطى يا إبن القبطى.. فرد عليه التلميذ القبطى ..يا مسلم يا إبن المسلم ؟؟
مر أسبوع على الدراسة في مدرسة المنشية وكنت أحظى هناك بعناية خاصة من المدرسين والتلاميذ لكونى ضيفا عليهم ولأنى حفيد العمدة طبعا وكانت المدرسة على أحدث طراز تعليمي مفتوح فلا يوجد لها سور وكنا نقف طابور الصباح في حوش أو فسحة أمام المدرسة بعد إخلائه من الحمير والكلاب الضالة ثم نقف في طابور الصباح نهتف لمصر ونرفع العلم ونقفز عدة قفذات كالقرود للتنشيط الرياضي ثم يصيح فينا مدرس التربية الرياضية الأستاذ بشرى واقيم للخلف دور ثم لليمين دور ثم تقدم فنتجه لفصولنا ليبدأ اليوم الدراسي وكأننا ذاهبون للحرب.
في بداية الأسبوع الثاني للدراسة ونحن نقف طابور الصباح وجدنا كاريته (حنتور) يجرها بغل تتقدم نحو الطابور وتقف في وسط الحوش وسط صمت الجميع ثم تتهادى منها فتاة فى مثل عمري وكأنها قطعة من الشمس تهبط في ظلام الأرض وقد أمسك بيدها والدها باش كاتب دائرة الإصلاح الزراعى في ذلك الوقت. تسمر الجميع بما فيهم المدرسون لهذا المشهد فلأول مرة تنزل بواديهم الطينى هذا سندريلا حقيقية بهذا الجمال والنعومة والدلال غير المتوفر في الأرياف عادة.
وقفت مثل باقى الأطفال أتعجب على هذا الملاك الذي هبط بفناء المدرسة فجأة وتعجبت عن سبب حضوره وسط هذا الجمع من التلاميذ الذين يغسلون وجوههم بصعوبة كل صباح ؟ لم يستمر الاستغراب كثيرا فقد حضر ناظر المدرسة وكان أزهريا سمح الوجه طليق اللسان طيب السريرة فصافح والد الفتاة وأمسك بيد هذه البرنسيسة وقال لنا فى طابور الصباح هذه أختكم “نوران” بنت المهندس مصطفى ستنضم إلينا في المدرسة إن شاء الله، ثم أخذ التلميذة ووالدها واتجها إلى مكتبه لإتمام أوراق قبولها بالمدرسة.
لم ينتهى أمر نوران معى عند هذا الموقف بل بدأ.
شغل بالى بهذه السنيورة التي هي ليست نور واحد بل نوران والتي تختلف كثيرا عن رفاق الدراسة من فتيات قرية المنشية رغم جمالهن المميز فقد كانت مختلفة في ملبسها ومظهرها وسلوكها العام فلم تكن تنطلق للجري أثناء الفسحة مثل الماعز تمرح وتنطح وتمزق ثيابك كما تفعل فتيات القرية الأخرى، وكانت بسمتها محافظة لا تهبها ببلاهة بعض أهل الريف إلى كل من ينظر إليها، كانت ترتدي معطف من الصوف المخملي الأزرق وتغطى عنقها بمنديل وردي من الحرير الرقيق يداعبه النسيم فيلامس وجهها الجميل دون استئذان، أما حذائها فكان أبيضا لامعا كأنها تدوس في لجة من القشطة البلدي.
لم تغادر صورة نوران مخيلتى حتى بعد عودتى الى بيت جدى بإنتها يوم الدراسة. ذهبت الى المدرسة في اليوم الثاني تواق لرؤية نوران ووجدتها تقف معنا في طابور الصباح ولحسن الحظ انضمت إلى فصلى أي أنها أصبحت رفيقة الدراسة، ولا استطيع أن أقدر حجم فرحتى بهذا الحدث حيث سأراها كل يوم على الأقل وبالطبع كان قلبى الصغير في الرابعة الابتدائية الذى لم يكن قد تشكلت حجراته بوضوح فكانت غالبا مفتوحة على بعضها ولا يعرف معنى الحب ولكنه كان على ما يبدوا كان يخطوا خطواته الأولى التجريبية للحب والذي يبدأ بالاستلطاف دائما.
جلست نوران بجوار تلميذة أخري في آخر الفصل حيث كانت الفتيات يجلسون في مؤخرة الفصل وكنت أحتل أول تخته أمام الصبورة ولذلك كان يصعب متابعتها من مكاني بينما هي تستطيع متابعة كل شيء من مقعدها. كانت نوران الجميلة التي لا تتكلم ولا تختلط مع أحد حتى مع زميلاتها من الفتيات مما جعلها تبدوا غامضة أو متكبرة على زملائها يهابها الجميع بل ويتجنبوها أحيانا، ولكنى وجدتها تأتى إلى وتكلمنى دونا عن باقى التلاميذ وتسألني عن بعض الدروس والرسومات التي رسمتها في حصة الرسم والتى أثنى عليها الأستاذ حسن نوار مدرس الرسم،
تعودت بعد ذلك أن أبادلها الحديث وكانت تضحك بشدة من بعض تصرفاتى الكوميدية في الفصل عندما كنت أقلد الأساتذة في فترة الراحة بين الحصص ويوم أن ضبطني ناظر المدرسة وقد ارتديت جبته وعمته التى تركها فى الفصل ذاهبا للوضوء ووقفت أقلده أمام التلاميذ وإذ به يشاهد الموقف دون أن أدري وبدل من أن يعاقبني ضحك كثيرا وقال لى عيب عليك يا شيخ العرب تفعل هذا وكان يلقبنى بشيخ العرب دائما نسبة الى أبى الذي كان يلقبه أهل القرية بهذا اللقب كلما زارهم
.يبدوا أن نوران أعجبت بشخصي بعد أن قل إنشغالى بها وذهبت دهشتي الأولى من لقائها ولذلك أرسلت والدها إلى جدي ليطلب منه أن أذهب للعب والمذاكرة مع نوران بعد الظهر وبالطبع وافق جدى،
وكان بيت الباش كاتب ليس بعيدا عن بيت جدى. وفى عصر اليوم التالي طلب منى جدى الذهاب الى بيت الباش كاتب، أخذت كراس الرسم وكتاب القراءة وقلم وبراية ومحاية في كيس من القماش وطرقت باب نوران. كان والدها يقف خلف الباب مرتديا روب وبيجامة ولم أري هذا الزى من قبل إلا في الفيلم السينمائي الوحيد الذي رأيته في هذا العمر حيث كان يوسف وهبى يرتدى زي مماثل، أما نوران فقد كانت ترتدي فستانا رقيقا تنتثر على جزئة ألأسفل أزهار صفراء بينما نصفه الأعلى من الدانتيل المشغول الأزرق الفاتح وقد كشف عن ذراعيها الرقيقتان وتركت شعرها الأسود يتصرف بحرية كاملة على وجهها الجميل‘ وعند لقائى أعتلت وجهها بسمة عريضة امتدت رحابتها من الشرق الى الغرب فكان استقبالا رائعا جعل قلبى الصغير يرقص فرحا ويغنى لحنا نسجه لنفسه لحظيا يشبه لحنا لبنانيا لحنه الرحبانية لفيروز” حبيتك ت نسيت النوم يا خوفى تنسانى” ورأيت شفاها تتمتم بكلمات لم اسمعها حينها لارتفاع صوت موسيقى قلبى حتى أيقظني صوت أبيها الأجش ” تفضل يا شيخ العرب ” ودخلت إلى بيتها كأنني داخل إلى مغارة على بابا وسط كم هائل من اللعب والعرائس لم أراها من قبل فلم أتشرف بدخول محل للعب الأطفال من قبل وكل لعبى من صنع يدي وهى لعب متخلفة جدا ولكنه مسلية مثل حال الريف المصري تذكرك بعصور الجاهلية حين كانوا يصنعون التماثيل بأنفسهم ليعبدوها، كنا نحن نصنع لعبنا من الورق والخشب والطين نلعب بها حينا ونستخدمها أحيانا كأسلحة ضد بعضنا.
بدأت الحياة جميلة في بيت نوران وهى تستعرض معى لعبها وتريني كيف تعمل وكنت أتعجب للدمى والعرائس الكثيرة التي كانت تصدر أصواتا، ومضى الوقت سريعا وهى تحاول ان تعرض لى كل ما لديها بسعادة غامرة. لم يكن عندى ما أقدمه لها إلا رسوماتى فقط فهى كل ما أملك ويبدوا أنها كانت فعلا تحب الرسم ولكنها لا تملك ملكة هذا الفن مبكرا مثلى، وقضينا بعض الوقت نرسم ونلون بألوانها الكثيرة الجميلة وظلت تحاول معى رسم الزهور حتى زرعنا فدانا من الورد والياسمين كنا نشم رائحته ونستمتع سويا بجماله على الورق.
تكررت زياراتى إلى بيت نوران ولاحظت أن أبيها وضع على مكتبه صورة وحيدة لسيدة تشبه نوران إلى حد كبير فسألتها من هذه السيدة ؟ قالت وقد تغيرت ملامح وجهها وتجمدت حركتها للحظة، هذه أمي .
.فقلت لها بعفوية الطفل وأين هى الآن ؟ قالت .. ماتت وتركتني.. ثم بدأت في البكاء وتحول المشهد إلى مشهد درامي حزين لم أعرف كيف أتصرف فيه واسودت الدنيا أمامي برؤية نوران حزينة بهذا الشكل فلم أكن أعرف عبارات العزاء ولا كيف أوقف هذا المطر المنهمر من عينيها الجميلتين.
ترقرقت عيناى بالبكاء لأنى تذكرت أيضا أمى البعيدة رغم أني كنت أزورها أوتزورنى كل اسبوع ولكنها مع كل هذا بعيدة. تداركت نوران الموقف وانسحبت بسرعة من أمامي لتغسل وجهها من الدموع وخرجت خلفها إلى الحجرة الأخرى حيث كان والدها الحزين الصامت أيضا قد أعد لنا بعض السندوتشات والعصير لنواصل مذاكرتنا.
عرفت بعد هذا أن نوران طفلة وحيدة حزينة من داخلها وأنه كما قال أبيها لجدي لم تعرف طعم البهجة ولم تضحك من قلبها منذ وفاة أمها الا برفقتى لها فى الأيام الأخيرة.
انتهى العام الدراسي وفرقتنا أجازة الصيف حيث سافرت نوران إلى موطنها الأصلي بالمنصورة ولم تعد حيث انتقل أبيها إلى هناك أيضا، ورحلت أنا إلى مدينة كفر الشيخ لأستكمل دراستي بمدرسة أحمد عرابي الابتدائية وانشغلت أنا برسم صور الفدائيين وأهل بورسعيد وهم يقاومون الاعتداء الثلاثي عام 1956م، وأتذكر جيدا مجلتى الحائطية التى سميتها ” النصر” وكانت تحتوي أخبار الجبهة ورسوم جنود المظلات الأنجليز وهم صرعى بيد سيدات بورسعيد،
كنت رغم طفولتي أحارب مع كل المصريين على صفحات مجلتي الورقية ولكنى لم أنسى نوران وظل طيفها يشاغلنى بين الحين والآخر وتمنيت أن ألقاها يوما فى الطريق أو أعرف أي خبر عنها.
ومع مرور الزمن اختفى طيف نوران وغابت معالمه وتورات ذكراها وسكن القلب الشاغر ضيف جديد تربع في حجراته الأربع.
وبعد ثلاثون عاما من الزمان كنت أبحث في أحد مكتبات الإسكندرية عن كتاب ولم أجده فسألت مدير المكتبة الذي أحالني إلى السيدة نوران التي تجلس في ركن المكتبة لتساعدنى لإيجاد الكتاب ولم يلفت نظري الأمر في البداية ولكنى لاحظت أن هذه السيدة رغم ترهلها الشديد وكبر عمرها وتسلل الشيب الى شعرها كان بها بقايا من ملامح نوران التى عرفتها طفلا، وتجرأت في سؤالها عن اسمها فكان ردها صاعقا لى فهى بنت الباش كاتب بتاعت زمان ولكن بعد أن أستهلكها الزمن مبكرا،
بتاريخ: الثلاثاء 29-10-2013 02:26 صباحا
القصة الكاملة مع خمسة عشر قصة أخري أكثر تشويقا بمجموعتي القصصية نوران
بيت الياسمين للنشر
القاهرة
أفضل المبيعات لعام 2015م