شاعر المشاهير: د. محمد المليجي قصة قصيرة من مجموعتي القصصي ” نوران”
تمتلئ حياة الطلبة المغتربين في المدينة بالأحداث والتجارب وبالشخصيات التي لا يمكن أن تنساها وكان عبد الحميد الجرف والذي أعطيناه اسم فني ” عبده سرحان” أحد هذه الشخصيات التي تركت في نفسي ذكريات لا يمكن أن أنساها رغم أنه تلاشي مع الأيام ولم أسمع عنه شيئا بعد أن تركت مدرسة طنطا الثانوية من عقود،
ولكنى أعتقد أنى لو سألت عنه ربما أجده مازال يسكن في نفس حارة على المزين التي تتفرع من شارع البحر بطنطا ومازال يكد ليل نهار للحصول على الثانوية العامة.
أطلقنا على عبد الحميد الجرف ابن أحد قري الغربية الصغيرة الاسم الفني ” عبده سرحان” لأنه كان يعيش دور الممثل ونجم السينما وقتها ” شكري سرحان” فيصفف شعره مثله ويحاول أن يقلده في كل شيء في كلامه وحركاته ولبسه. لم يكن عبده سرحان يشبه شكري سرحان في شيء ولكنه كان يشاركه في بعض الصفات وهي أنه طويل نسبيا وله لسان وشفتين وعينين وأنف وشعر ناعم يمكن التحكم فيه بالفازلين والمشط، وهذا يكفي في نظر عبده سرحان وكانت مشكلته الوحيدة ذلك الفالق في تضاريس وجهه الذي يمتد من منبت شعره حتى فوق حاجبة الأيسر وكان هذا الفالق بصمة تركها حافر حمار كان قد ضج منه وهو طفل، كان عبده يحاول إخفاء هذا الفالق بخصلة من شعره الناعم وبذل جهودا مضنية من أجل تثبيت خصلة الشعر فوق الفالق لإخفائه.
لم يكن سرحان ميسورا ولكنه كان قد اشتري بالطو مستعمل من الصوف الكحلي وربطة عنق بني متسخ تشبه سمكة الرنجة وقميص أبيض وأزرار للكم وخنق نفسه في هذا الزي ليل نهار ليبدوا مختلفا عنا نحن طلبة الثانوي الذين نقوم وننام في لبس التربية العسكرية. كان عبده سرحان يغسل قميصه الأبيض الوحيد بعد أن تسود ياقته في المساء وينشره حتى يلبسه في اليوم التالي حتى لا يتخلى عن هيئته الثابتة التي لا تتغير.
لم يكن سرحان يهتم بالدراسة على الإطلاق وكان اهتمامه الوحيد هو اللحاق والانضمام بالوسط الفني حيث الثراء والشهرة والعيش الرغد بلا مجهود. كان يعتبر نفسه شاعرا مفوها يكتب الأغاني العاطفية والأناشيد القومية ويكتب النثر والشعر بطلاقة كما يعتقد.
كان دمه خفيف ويتقبل النقد وكنا نحب جلسته التي تضفي علينا الكثير من المرح خاصة انه لا يتأثر بنقدنا له، كان كلما زارنا أخرج من جيب البالطو العميق دفتره الذي رص فيه الأشعار والأغاني وكتبها بخط جميل ومنسق ثم يبدأ بإنشاد بعضها ليأخذ رأينا في الأغنية وتصلح لمن من المطربين، فهو يكتب كلماته خصيصا لنجاة الحالمة أو لشادية الشقية أو لمحرم فؤاد قوي الصوت أو لعبد الحليم محبوب الجماهير، وكان يتجرأ أحيانا ويقوم بتلحين اشعاره ويدندن بها بما يناسب صوت كل فنان.
كنا نسمع هذيانه ونضحك من قلوبنا فقد كانت كلماته واشعاره تنم على وجود تلامس بين أسلاك مخه فتخرج الكلمات كالشرر المتطاير غير المترابط بلا ذوق أو معني، وكأنك تجلس أمام عامل يقوم بلحام شاسيه عربية كارو. ولكن سرحان كان يصر على أن هذا هو الشعر الحديث ويواصل في تصديعنا بأغانيه وأتذكر بعض أغانيه الشهيرة التي ألفها خصيصا للمطربة شادية وكان يسمي الأغنية ” لهلوبة” وكان مطلعها ” بشوفه يصبح عقلي شارد ” وبحبه سخن وبحبه بارد” اعتقد أنه كان جوعان ويفكر في رغيف عيش بلدي وهو يكتب الأغنية.
كانت مشكلته المؤرقة أنه لا يستطيع الكتابة لكوكب الشرق لأن شوية شعراء مخضرمين من القاهرة مسيطرين عليها وكذلك عبد الوهاب المتكبر الذي لا يتعامل مع الفلاحين، بينما شادية ونجاة وربما عبد الحليم يمكن الوصول إليهم.
المشكلة الأخرى التي كانت تواجه صاحبنا الشاعر الوجيه سرحان هي الحصول على عناوين الفنانين وأرقام تليفوناتهم حتى يقدم لهم نفسه وأشعاره التي سيتشرفون بتلحينها وغنائها، لذلك كان يلهث خلف مجلة الكواكب الأسبوعية التي تتبع أخبار الفنانين التي لا يستطيع شرائها كل أسبوع فيذهب ليمسح حذائه خصيصا بقرش صاغ ويقرأ الكواكب عند محل ماسح الأحذية في شارع بور سعيد ببلاش بحثا عن طاقة نور توصله الى شادية او نجاة او حتى عبد المطلب.
كان سرحان يغيب كثيرا من المدرسة ويرسب سنويا في بعض المواد وينجح في أخري لانشغاله الشديد بالفنون وعلاقاته الافتراضية بالفنانين ومستقبله الواعد في الفن.
لم يكن طموحة يقف عند حد وكان يدعي أنه من اسرة غنية ذات حسب ونسب في البلد رغم أنه كان لا يزورنا الا ونحن نعد الغذاء فيشاركنا الغذاء مجانا وكان على ما يبدوا لديه حاسة شم قوية تفوق الكلاب حيث كان يهبط علينا غالبا عندما تكون قد وصلتنا وليمة من البلد فيشمر ويذكرنا بطبيخ أمه وكرم أبيه الذي لم نري منه شيئا.
وعلى ذكر الكلاب فقد قرر سرحان في يوم ما أن يقتني كلبا لزوم الوجاهة بعد أن رأى الفنانة صباح تصطحب كلب لولو جميل في أحد الأفلام فأعجب بالفكرة وقرر تطبيقها على نفسه رغم أنه كان يعيش في غرفة مع طالب آخر ولا مكان لديهم لقطة وليس كلبا. هداه تفكيره الساذج إلى أن يقتني أحد كلاب الشوارع المنتشرة في كل مكان خاصة أن هناك كلبة حارس الجراج على ناصية حارة المزين بشارع البحر قد أنجبت ثلاث كلاب جميلة يشاهدها سرحان كل يوم وهم يلعبون في سعادة غامرة وأمهم متمددة في الشمس تستمتع بأشعتها وتراقب أطفالها السعداء يلعبون ويرضعون ويمرحون في أمان.
ذهب سرحان لينتقي أحد أطفال الكلبة المرتخية دائما في جو من الهدوء وكان مترددا بين الأبيض والأسود والبنى فكل منهم لونه جميل ولكن الفنانة صباح كانت تقتني كلبا أبيضا، لذلك استخار وقرر اقتناء الجرو الأبيض وتوكل على الله وهم بإمساك الكلب الأبيض الذي يلهو مع أخويه، وإذ بالأم النائمة والتي كانت تراقب الموقف من بعيد تقفز من ثباتها بدون أي صوت وتعلو قفى سرحان وتعضه في مؤخرة رأسه فينكفئ على الأرض ويدفن وجهة في التراب والكلبة الأم تواصل تمزيقها للبالطو الأزرق الشهير حتى هب الناس لتخليصه من براثن الكلبة التي تدافع عن أبنائها. تبخر حلم سرحان في اقتناء كلب وكان لابد أن يتم حقن سرحان ب 21 حقنه للوقاية من مرض السعار وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها للإهانة الشديدة وتهديد حياته من كلبة.
توصل سرحان الى معلومة مهمة وهي أن الفنانة نجاة الصغيرة تسكن في حي المهندسين بالقاهرة فأصلح ملابسه وهيأ نفسه وسافر للقاهرة قاصدا حي المهندسين وقد جهز لها كل الأغاني التي ألفها وتناسب صوتها الحالم وكان يقول لنا، لو سمعت أغنية واحدة فقط لن تترك أي من أغنياتي حتى تغنيها خاصة أغنية ” سيبك من الهوى وأنسي وروح دور على حالك -أنا مش فاضية لغرورك ولا بخطر على بالك”.
وصل سرحان حي المهندسين بصعوبة وهناك قرر أن يسأل على عنوان المطربة نجاة من عمارة الى عمارة وهذا بالطبع يأخذ شهرا على الأقل ولكن مهمته وئدت مبكرا بعد أن قال له بواب أحد العمارات المثقفين ..إنتا يا فندي ما بتقراش جرايد ؟ الست نجاة اللي بتسأل عنها عايشه في لبنان من سنتين وما بتنزلش مصر الا قليل، يئس سرحان من البحث وقرر العودة من القاهرة الى طنطا.
في نفس يوم سفر سرحان الى القاهرة حضر والده من البلد يركب حماره ويحمل الزوادة لابنه طالب العلم وعند وصوله لعنوان سكن ابنه ربط حماره بعامود النور أمام باب العمارة وحمل الزوادة للطابق الثاني من العمارة حيث وجد رفيق حجرة ابنه عماد ولم يجد ابنه عبد الحميد الذي سافر الى القاهرة في مهمة لا يعلم عنها أحد شيئا. جلس الرجل في حجرة ابنه ينتظره بلى جدوى فغفلت عيناه وغفى متمددا على سرير ابنه الغائب، وكان الحمار المربوط في عمود النور تحت العمارة قليل الأدب حبتين فأخذ يطالع الحسناوات المارات من بنات المدينة ويصدر أصواتا مزعجة ويظهر أشياء غريبة تدلى من بطنه ولا يخجل من قضاء حاجاته في الشارع بمدخل العمارة أمام المارة مما لفت نظر السكان الذين لم يتعودوا على هذا المنظر القبيح وظل الأولاد والبنات يطلون من البلكونات على حديقة الحيوان الجديدة التي وصلت فجأة الى عقر دارهم ويضحكون ويتغامزون على هذا الحمار الفلاح الفاجر.
ضج بواب العمارة من الحمار قليل الأدب الذي لا يعرف له صاحب ولذلك فك رباطه من عمود النور وطرده من الحارة وصاحبه أبو عبد الحميد يغط في نوم عميق بحجرة ابنه بالدور الثاني.
انطلق الحمار في شوارع طنطا وهو ينهق حرية حرية .. يخرب بيت الفلاحين وأيامهم .. واختفى من المكان.
تيقظ أبو عبد الحميد من نومه وقرر أن يشقر على الحمار ويضع له بعض البرسيم خاصة أنه حتما سيبيت هنا الليلة حتى يطمئن على ابنه الغائب.
نزل الرجل يبحث عن حماره فلم يجده وكان البواب يراقب الموقف من بعيد بعد أن عرف بأن هذا الرجل هو صاحب الحمار الذي طرده، وبسؤاله رفض البواب أن يصرح بما فعله ولكنه قال إن الحمار ربما فك نفسه أو قرض حبله وتحرر من قيده ..وقال البواب لأبو عبد الحميد : جمال عبد الناصر قال ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، أكيد الحمار سمع كلام الريس يا حج .
وقف أبو عبد الحميد حائرا كيف يبحث عن ابنه وحماره في هذه المدينة الكبيرة فخرج بلا هدي يسأل الناس عن حماره وابنه التائهين كما كان يسأل ابنه عبد الحميد في حي المهندسين عن مسكن نجاة الصغيرة ليعرض عليها أشعاره. وعندما يئس الرجل من البحث عاد الى سكن ابنه حتى لا يتوه هو الآخر وجلس القرفصاء على سلم العمارة يحمل رأسه على كفيه حزين على حماره المفقود ومنتظرا لعودة ابنه الغائب.
وصل القطار من القاهرة الى محطة طنطا في العاشرة والنصف مساءا ونزل سرحان الفنان ليواصل السير من ميدان المحطة الى ميدان الساعة حيث اشتري سندوتش فول واتجه الى شارع البحر وهناك شاهد حمارا يشبه حمار أبيه يقتات على القمامة ولكنه لم يعير الأمر اهتماما وواصل السير حتى وصل عمارته في حارة على المزين ودخل من الباب ليجد أبيه جالسا على درجات السلم في انتظاره.
هب الأب واقفا يحتضن ابنه الذي غاب عنه وهو يقول ..كنت فين يا عبد الحميد قلبى كان حا يقف من قلقي عليك يا بنى. .. .كنت فين يا عبد الحميد المدة دي كلها ..دانى هنا من بعد صلاة الضهر مستنيك وأقول حايجي بعد شوية انا قلت أنى فقدت ابنى والحمار في ليلة واحدة ..ولكن ربنا كبير في داهية الحمار طالما شفتك يا عبد الحميد إنتا عندي أحسن من عشر حمير.
لم ينطق عبد الحميد بكلمة واحدة من هول الصدمة والمفاجئة ولكنه بدأ يستوعب الموقف ويربط بين أبيه والحمار الذى شاهدة يقتات على القمامة. نطق عبد الحميد أخيرا وقال حمد لله على السلامة يا با أنا كان عندي مشوار لمصر كنت بقدم على وظيفة هناك.
قال أبو عبد الحميد .. يانور النبى يا ولاد..إنتا خلصت الثانوية وحا تستوظف يا عبد الحميد.. يا فرحة أمك بيك يا عبده.
قال عبد الحميد: لسه شوية يا با بس لازم ادور على الوظيفة من دلوقتي علشان اخلص الثانوية واشتغل على طول، بس إيه حكاية الحمار دي يا با، إنتا جيت تاني بالحمار ..مش قلتلك تاخد مواصلة أحسن
قال الأب: مواصلة له لما يكون عندك مواصلتك الخصوصي تروح بيها وتيجي بيها زي مانت عايز والا هيا مصاريف وبس، على كل حال الحمار اللي مش عاجبك راح .. راح يا عبدة وخد قلبي معاه .. كان إيدي ورجلي وشايل كل همومي .. باين حد سرقه يا عبد الحميد .. لو اعرف ان طنطنا زي دمنهور فيها حرامية حمير ..كنت خليته في البلد وخدت مواصلة .. لكن النصيب بقه.
قال عبده: طيب خليك هنا شوية يا با حارجع لك بعد شوية
قال الأب: حاتروح فين تاني ياعبده أنا مصدقت لقيتك
قال عبده: أنا شفت حمار زي بتاعنا بيأكل من القمامة على ناصية الشارع التاني.
قال الأب: يا فرج الله أنا جاي معاك ورجلي على رجلك، وذهب عبده ووالده حيث وجدوا حمارهم في انتظارهم وكان على ما يبدوا أن الحمار شعر هو الآخر بالغربة والخوف من المجهول واضطره جوعه في المدينة للبحث عن الطعام في القمامة مثل الكلاب والقطط الضالة بعد أن كان حمارا محترما لا يأكل الا البرسيم الطازج والفول الحصى المعتبر المخلوط بالتبن الذهبي وكان له الكثير من الخليلات في البلد.
شاهد الحمار صاحبه من بعيد فرفع رأسه يتأمل القادمين ولمعت مقلتيه بالفرحة ورفع أذنيه مستبشرا وحرك ذيله مبتهجا وترك القمامة مسرع الخطي متجها نحو أبو عبد الحديد الذي فتح هو الآخر ذراعيه أيضا مستقبلا حماره وغمرته السعادة للقاء حبيبه الحمار الذي سلم نفسه له ليصحبه طوعا الى بيت عبد الحميد.
لم ينام والد عبد الحميد هذا المساء مراقبا حماره حتى حلت صلاة الفجر ليأخذ حماره ويعود للبلد ويترك ابنه عبده سرحان يواصل دراسته ويعيش حلمه الفني الى ما شاء الله