إعدام على قارعة الطريق
هذه احدي القصص القصيرة بمجموعتي القصصية نوران التي احتلت أحد اكثر المبيعات من الكتب المنشورة بمكتبات القاهرة الشهيرة عام 2015م .كان الضابط كمال من افضل ضباط وزارة الداخلية انضباطا وحماسا في عمله فقد تدرج في ترقياته بسهولة إلى أن وصل إلى نائب مدير أمن أحد مدن مصر الكبرى وهو في الأربعين من عمره، كان كمال يستند إلى مهاراته وإخلاصه في عمله في كسب ثقة قيادات الشرطة ولم يكن مثل الكثيرين من الضباط الآخرون الذين يعتمدون على الوساطة والمحسوبية والإرتماء في أحضان السلطة لكي يحققوا ما يبغون من ترقيات وتنقلات وسفريات وبدلات
اشتهر صيت كمال في المدينة الكبيرة بسرعة بعد أن استطاع كبح جماح الخارجين على القانون بجمعهم يوميا كالقطيع من الشوارع وحبسهم بلا محاكمات بل وتعذيب من يتجرأ منهم علىm المقاومة ، كان كمال يعتقد مثل الكثير من الضباط أن المجرمين والمتسولين والمتسكعين بالشوارع لا يجب أن تتم معاملتهم كبشر مثل كل الناس وأنهم لا بد أن يختفوا من الصورة.
انحصر الإجرام في المدينة وأعجب الناس بهذا النظام الأمني الجديد دون أن يسأل أحد عن الذين يقبعون في السجون بلا محاكمة لمجرد الاشتباه بهم ولكن الضابط كمال كان لا يهمه هؤلاء المحبوسين طالما أن القيادات والناس مرتاحون.
في أحد الأيام قام وزير الداخلية بزيارة فرع وزارته في المدينة وكان الجميع في انتظاره خاصة أن حركة التنقلات والترقيات قادمة وكان الوزير يستمتع بمفاجئة الجميع بقراراته في النقل والترقية ويستغل هذه الفرصة كل عام لكي يبين للجميع مدى قوته ومدى ثقة رئيس الدولة به فيعز من يشاء ويذل من يشاء تبعا لدرجة رضاه عن رجاله الضباط كانت مصر قد مرت بمرحلة قاسية من الحرب مع الإرهاب والتي نجح فيها الوزير من الحد من نشاط الإرهاب باتباع اسلوب الإبادة والمبادرة بالهجوم وكان يلقى تأيدا من غالبية الشعب والحكومة بالطبع وكان هذا سببا كافيا لأن يحتفظ بوظيفته بل ويكون مدللا لدى الرئيس. التقي الوزير بضباطه في القاعة الكبرى لمبني وزارة الداخلية بالمدينة وألقى خطابه السنوي المكرر عن آداء الشرطة وما كان وما يجب أن يكون ولم ينسَ أن يذكر الحضور بالعلاقة الخاصة بينه وبين الرئيس وزوجة الرئيس وأبناء الرئيس وهذا كله مفهوم عن هذا الوزير المتعجرف والذي يضطر ضباطه أن يسمعون إليه مهما كان حديثه، المهم هو حركة التنقلات والترقيات التي قد تشتت عائلات وتغير من مصير الكثيرين من الضباط.
انهي الوزير خطابه وتوجه الجميع لقاعة الطعام وتدافع الضباط للسلام على الوزير نفاقا وخوفا من بطشه بهم وكان كمال من أول المتقدمين لمصافحة الوزير كنائبه لمدير الأمن ولكن الوزير وعلى غير العادة ربط على كتف كمال و قال له: عايزك يا كمال بعد الغذاء.
كانت هذه اللفته من الوزير مصدر استغراب من الجميع فما بالك بكمال نفسه الذي لم يتذوق طعم الغذاء ودارت به الدنيا انتظارا للقاء الوزير.
اتجه الوزير بعد الغذاء إلى مكتبه ومعه مدير الأمن وبعد اجتماع قصير معه خرج المدير ودخل نائبه كمال بادر الوزير كمال بالحديث قائلا : اسمع يا كمال كل تقاريرك أنا باطلع عليها أولا بأول وكلها بتقول إنك ضابط شغال كويس وبتعرف تخلص كل المطلوب منك بكل الطرق وده أسلوبي المميز في القضاء على الإرهاب. قال كمال: أنا في خدمتك وخدمة الوطن يا ريس
قال الوزير: علشان كده أنا اخترتك تكون مساعد لي لشئون الارهاب وأملي فيك كبير. ولازم تعرف إننا صحيح قضينا على الإرهاب وخفت حدته ولكن لسه النار تحت الرماد والولاد دول مش ساكتين وكل يوم بيحاولوا يرجعوا على الساحة. قال كمال: دي مهمة كبيرة وشرف كبير لي يا ريس وربنا يقدرني على أن اكون محل ثقتكم وثقة سيادة الريس قال الوزير: خلاص قدامك ثلاث أيام ترتب الأمور مع أولادك وتكون عندي في القاهرة علشان تعرف مهامك بالضبط.
ذهب كمال إلى زوجته وأبنائه وهو مذهولا لا يعرف ماذا يفعل وماذا ينتظره في منصبه الجديد كمساعد للوزير ولكن في مكافحة الإرهاب. أصيبت زوجة الضابط كمال بالهلع من الخبر خاصة أن أطفال كمال بالمدارس وكمال سيكون معرضا للموت في كل لحظة في مهمته الجديدة ولكن لا مفر من تنفيذ الأوامر.
حزم كمال حقائبه وودع زوجته وأولاده متجها إلى القاهرة لتولي منصبه الجديد ولم ينسَ أن الوزير نبه عليه أن يكون منصبه هذا سريا لا يعلم عنه أحد حرصا على حياة كمال.
قضى كمال ليلته الأولى في استراحة الوزارة بالقاهرة وذهب في الصباح لمباشرة عمله لا يعرف أين سيكون مكتبه الجديد ليجد مفاجأة كبيرة تنتظره.
ذهب إلى مكتب الوزير ليجد أن معالي الوزير غير موجود وقد ترك له ورقة بها المهام الموكلة إليه لكي ينفذها في الحال وتحتوي الورقة عدة كلمات فقط تقول له : ا ذهب اليوم إلى مديرية أمن المنيا وستجد هناك تعليمات بالمطلوب عمله فورا.
سأل كمال مديرة مكتب الوزير المتأنقة الجميلة والحاكمة الملامح عن إمكانية مقابلة الوزير فقالت له: إن معالي الوزير لا يأتي قبل الثانية عشرة ظهرا بعد ان ينتهي من إفطاره ورياضته اليومية.
توقف كمال للحظة مندهشا مما يدور ولكن مديرة مكتب الوزير برتبة مقدم لاحقته بعبارات الواثق والعارف ببواطن الامور فقالت له الأفضل أن يأتي معالي الوزير ويجدك قد وصلت المنيا لأن الأمر هناك خطير ويحتاج إلى مهاراتك.
قال كمال: لعله خير إن شاء الله
ردت مديرة المكتب قائلة : قافلة الشرطة المصاحبة لك في انتظارك وستجد معهم كل التعليمات ولا تنسَ مدى سرية عملك فلا تخطر حتى زوجتك بأي شيء عن مهمتك الحالية.
ركب كمال سيارة الشرطة المصفحة وبعد ثلاث ساعات وصل الجميع إلى مركز الشرطة في إحدى قرى محافظة المنيا التي تقع في حضن الجبل وكانت القرية مثل كل قرى الصعيد لا تعرف مداخلها من مخارجها وذات شوارع ضيقة وغير منتظمة ولكن أكثر ما لفت نظر الضابط كمال هو غياب البشر من الشوارع رغم إطلالة رؤوس كثيرة من النوافذ لتستطلع أمر حملة الشرطة القادمة للقرية مدججة بالسلاح.
وصل كمال إلى مركز شرطة القرية ليجد قائد المركز ضابط برتبة نقيب اسمه زكريا منتظرا أمام باب المركز وعندما رأى كمال أدى له التحية العسكرية ثم صحبه إلى مكتبه
وفي المكتب سلم زكريا كمال مظروف مغلق به رسالة سرية من معالي الوزير.
فتح كمال المظروف ووجد رسالة الوزير وأوراق أخرى وبدأ في قراءة الأوراق بتركيز شديد لم يقطعه إلا أخذ انفاس عميقة من سيجارته وارتشاف القهوة التي ليس لها طعم بين الحين والأخر وظل يقلب في الاوراق ويعيد قراءة بعضها مرات ومرات حتى انتهى منها.
بعد قراءة رسالة الوزير السرية والملف المرفق بها وجه كمال سؤال لزكريا. إيه الحكاية بالضبط يا زكريا؟
قال زكريا: الحكاية كما قرأتها يا فندم قال كمال ولكني أريد أن أسمع منك أنت خاصة إنك هنا من ثلاث سنوات وعشت كل الأحداث
حكي زكريا القصة لكمال والتي تقول أن هذه القرية كانت وما زالت مصدرا للمتطرفين من الشباب إلى أن تم القبض على الكثير منهم بعد ان نكلت الشرطة ببعض أهاليهم من الرجال والنساء مما اضطر الكثير من الشباب أن يسلم نفسه للشرطة واختفت الظاهرة لفترة ولكن في الشهور الاخيرة بدأ الشباب يتسربون من القرية إلى الجبل ويتدربون مع عصابة من المطاريد على القتال ومهاجمة الشرطة كل يوم، وفي الأسبوع الماضي قتل عدد من رجال القرية في المساء ولم نستطع أن نعرف السبب كما لم يتهم أهل القرية أحد ولزم الناس الصمت بل واختفى الناس من الشوارع والقهاوي كما شاهد الضابط كمال.
واصل زكريا حديثه فقال انه لم يستطع الحصول على اعتراف واحد يقود إلى شيء عن سبب القتل ومن القاتل وهل هناك علاقة بين ما حدث والإرهاب والمتطرفين؟
قال كمال: ومعالي الوزير ملقاش غيري يجيبوه هنا لكي يحل هذا اللغز الكبير؟
قال زكريا: ربنا يقدرنا نحله معاك ياباشا وانت أهل للمسئولية يا باشا
قضي كمال باقي يومه وهو يحاول أن يرتب مكان إقامته ويفكر طول الوقت في ماذا سيفعل في هذه المشكلة الكبيرة والاختبار الصعب الذي وجد فيه ،فقد تعود على التعامل مع البلطجية أو اللصوص والمحتالين وعرف تماماً أساليبهم وكيفية النيل منهم ولكن هذه المرة الأمر يختلف تماماً والتحديات صعبة للغاية سواء في المكان أو في طبيعة البشر أو في تعقيد المشكلة.
قضى الضابط كمال ليلته مفتوح العينين ملقيا على سريره ولكنه يشعر أن جسده لا يلامس السرير من شدة القلق حتي أصبح الصباح وكان صباحا باردا رغم سخونة الجو في هذه المنطقة من مصر العليا .
فكر الضابط كمال في رسم خطة محكمة لمعرفة ما يدور حوله أولا ولكي يجفف منابع الارهاب كما يقولون كان مقصده الاول هو مدارس البلد حيث اجتمع مع ناظر المدرسة وطلب منه قوائم الطلبة في المرحلة الثانوية تم حصر غياب الطلاب يوميا ليعرف من يحضر ومن يغيب وما هو سبب غياب الطلاب وأين يذهبون.
كانت العملية صعبة للغاية في أولها ولكن كانت سياسة العصا والجزرة التي اتبعها كمال ناجحة في النهاية حيث استطاع كمال أن يحصر أسماء الشباب الذين تسربوا خارج القرية وبدأ البحث عنهم في كل مكان وفي نفس الوقت تردد كل من فكر في الانضمام إليهم في تنفيذ رغبته لأن النتيجة ستكون كارثية له ولأسرته بالقرية.
في تلك الفترة لم يتوقف القتل الخفي بالقرية بين الحين والآخر حيث قتل ثلاثة في شهرين منذ قدوم كمال وتم دفنهم بلا عزاء أو اتهام واحد لأحد وكان أسلوب القتل واحد وهو الرمي بالرصاص أو الذبح بآلة حادة.
حاول كمال بكل الطرق فك هذه الطلاسم سواء باللقاء مع عمدة ومشايخ القرية أو باللقاء مع الناس العاديين دون جدوى فالكل يدعي عدم المعرفة أو ينكر تماماً صلته بالموضوع
حرص كمال على أن تظل رتبته كلواء أمن دولة سرا من أسرار العملية المكلف بها فكان يعرف بالرائد كمال بين أهل البلد حتى لا يشعر الإرهابيون بحضور رتبة كبيرة بينهم و بتصعيد الموقف ضدهم ويستعدون له بما يناسبه.
في صباح أحد الأيام حضر العسكري فرجاني الذي يقوم على خدمة الباشا كمال وسأله عن طلباته فرد عليه كمال زي كل يوم يا فرجاني كان الضابط كمال يحرق في سيجارته الثالثه قبل أن يتناول إفطاره ويطالع تقارير غياب أبناء القرية ومن قبض عليه ومن هو في الحبس بعد أن اكتظت حجرات الحجز الاحتياطي لديه والموقوفين وتم ترحيل العشرات إلى سجن مديرية الأمن في عاصمة المحافظة.
حيا فرجاني الضابط كمال وذهب ليعد سندوتشات الباشا وبعد خروجه من الباب سمع الضابط كمال صوت ارتطام شديد بالأرض فقفذ من مقعده ليعرف السبب، وجد كمال عم فرجاني ممددا على الارض والدماء تسيل من جبهته وتجمع من بالمكان ليسعفوه وحملوه الى حجرة مجاورة بها أسرة للعساكر وهناك التف حوله الجميع محاولين معرفة سبب سقوطه ولكنه كان يهزي بكلمات وعبارات غير مفهومة وترتعد أوصاله في نوبة عصبية شديدة حضر طبيب الوحدة الصحية بالقرية على عجل وبعد أن كشف على فرجاني صرح للضابط كمال أن فرجاني مصاب بصدمة عصبية شديدة تحتاج للتعامل معه بحرص دون إزعاجه حتى نعرف سبب صدمته هذه. ترك كمال مكتبه ورافق فرجاني وباشر إعطائه الدواء بنفسه وبعد مرور ساعة بدأ فرجاني يهدأ وينخرط في البكاء ويردد بنتي حاترجع ياباشا؟ بنتي حا ترجعلي بنتي يا باشا؟ حترجعولي بنتي إمتى؟
استغرب الضابط كمال من كلام فرجاني ولم يفهم ماذا يعني قال كمال بهدوء حانرجعلك بنتك يا فرجاني بس قول لنا إيه الحكاية
قال فرجاني: مش قادر اسكت أكتر من كده ياباشا ولو قتلوني ، دي بنتي الوحيدة ولو راحت تبقى حياتي ملهاش لزمه وأحسن يقتلوني
قال الضابط كمال :مين هما اللي حيقتلوك يا فرجاني وبنتك راحت فين
قال فرجاني: أنا بعد خطف بنتي لازم أتكلم بس الله يكرمك رجعلي بنتي حتى لو قتلوني
قال كمال: أتكلم يا فرجاني شغلتني ….. فيه إيه
قال فرجاني: الشبح ورجالته ياباشا كل كام ليلة يهجموا علي بيوتنا وياخدوا بناتنا ونسوانا وكل اللي يلاقوه واللي يقاومهم يقتلوه وهددونا لو بلغناكم مش هايرجعوا نسوانا وبناتنا المخطوفين والناس خافت من القتل ومن الفضيحة ومين حا يقول للناس إن مراته أو بنته اتخطفت ورجعوها ، وكل الناس اللي اتقتلت في البلد قتلها الشبح ورجالته وهما بيدافعوا عن شرفهم ومفيش حد قادر ينطق بكلمه.
كانت كلمات فرجاني تقع كالسوط على مسامع الضابط كمال وواصل الاستفسار من فرجاني ابن البلده الوحيد الذي يعمل في مركز شرطة القرية، سأل كمال …. من هو الشبح الذي تتكلم عنه
قال فرجاني: محدش عارف مين الشبح ده وإيه شكله أو دينه ، بيدخل البلد مع ييجي عشر رجاله في تلت الليل الأخراني راكبين خيول ومغطيين وجوههم بلاسات سوده ومتسلحين بكل الاسلحة وكل مرة يدخلوا البلد من جهة ياخدوا البنات والنسوان والفلوس والدقيق اللي في الدار وبعد يومين او تلاته يرجعوا النسوان والبنات حسب مزاجهم وفيه نسوان مرجعتش خالص بس مفيش حد قادر ينطق
المهم بنتي ياباشا كانت ليلة أمبارح بايته عند خالتها المريضة ونزل على بيت خالتها عصابة الشبح وخطفت بنتي وانهمر في البكاء.
عاد الضابط كمال لمكتبه وطلب عقد اجتماع لكل الضباط ليخبرهم بالكارثة الجديدة التي حلت بهم وبالقرية التي من المفروض أنها تحت حمايتهم وكان في غاية الغضب عندما استقبل معظم الضباط الأمر ببرود شديد وبتعليقات غاية في السخافة والاستهتار في رأي الضابط كمال، كان رأي بعض الضباط أن هذا شأن صعيدي وأنه لا يمكن للشرطة ان تفعل لهم كل شيء وقال آخر: هما متعودين على كده واحنا مش حا نحارب لهم
وجد كمال نفسه أمام شيئين لا ثالث لهما وهما إما أن يسمع كلام ضباطه ويركز نشاطه ضد الارهاب والإرهابيين وترك القرية تحل مشاكلها أو يخوض المعركة ضد الشبح وعصابته ويسترد كرامة عم فرجاني وأمثاله ولكن بدون هؤلاء الضباط المتخاذلون.
أنهي الضابط كمال اجتماعه مع ضباطه ورفع سماعة التليفون طالبا معالي الوزير في مكالمة خاصة وسرية وكان الوزير سريع الإستجابة لطلبات كمال، قص كمال ما سمعه من الجرائم التي يقوم بها الشبح ضد أهل القرية وقال له أيضاً: أن الشبح يوفر الأرض والمناخ لتربية وتفريخ الإرهاب والإرهابيين
دهش الوزير لما سمعه وقال لكمال بالحرف الواحد طلباتك مجابة يا كمال شوف نوع المساعدة والسلاح اللي أنت عايزه وحاول تخلص مش عاوز مساجين ومحاكمات معندناش وقت للحاجات دي عايزك تخلص عليهم في الجبل وفي القرية …. المهم تدفن المشكلة دي ومش عايز خبر يطلع للصحافة او الإعلام … إتصرف ياكمال مش عايز الأخبار دي توصل للريس لأن ده سيكون له مردود سلبي على سمعة الشرطة.
كانت أول حاجة عملها كمال هو تغيير طقم ضباطه بالكامل إلا الملازم صلاح الذي كان لا يشارك الآخرين عدم التحمس للقضية، طلب كمال خمسة ضباط بالإسم كلهم عملوا معه من قبل وأثبتوا كفاءتهم وحماسهم للعمل معه سابقا.
بدا كمال خطة جديدة لوقف هجوم الشبح ورجالته على البلد وذلك بتسوير القرية بالكامل حيث أجبر شركات محاجر الجبل أن تنقل كل يوم عشرات اللوريات من الطوب الابيض وجند الأهالي لبناء سور بارتفاع مترين أحاط به القرية إلا في مناطق تحرسها الشرطة ليلا ونهارا.
توقف هجوم الشبح ورجاله على القرية ليلا ولكنهم باشروا عملهم من خلال الحقول والطرق المحيطة بالقرية لسلب أموال أهل القرية جهارا نهارا متحديا الحكومة وأهل القرية. قرر كمال مهاجمة الشبح في الجبل بعد أن تم القبض على أحد رجال الشبح بالصدفة واعترف تحت التعذيب بمعلومات هامة حول الشبح ورجاله ومواقع تواجده ليلا ونهارا وقوة تسليحة ومصادر الذخيرة، كانت المعلومات التي حصل عليها كمال كافية لأن يعد كمينا للشبح ومهاجمته في عقر داره في مغارات الجبل.
كان من عادات الشبح كما أخبر عنه أحد رجاله المقبوض عليه وهو السهر والعمل كالخفاش بالليل بينما يقضي النهار بين السكر والعربدة والنوم وكانت خطط الشرطة تبني غالبا على مهاجمة الخصم بالليل أو مع صلاة الفجر.
رسم كمال وضباطه خطة جهنمية لمهاجمة الشبح بأن جعل جنوده الأمن المركزي يلبسون الزي الصعيدي ويمشون في جنازة تسير من القرية لأخرى المجاورة لبطن الجبل إلى المدافن في طريق موازي لمكان المغارة التي يختبئ بها المطاريد. وضعت جثة الميت المفترض في سيارة تمشي بهدوء وخلفها المشيعيين وكانت السيارة محملة بالأسلحة الاتوماتيكية والقنابل المسيلة للدموع ، وعندما اقترب ركب المشيعين من مكان المغارة أعطي كمال إشارة الهجوم ليصعد الجميع إلى الجبل ويهاجمون المغارة على غفلة من المطاريد الذين بادروا أيضاً باطلاق الرصاص فأصابوا تسع جنود بينما استطاع باقي المهاجمين الوصول إلى المغارة وإطلاق القنابل المسيلة للدموع وجرى اشتباك عنيف وهرج ومرج أدى إلى القبض على اثنين وعشرين ومقتل خمسة وإصابة ثمانية من المطاريد وتم تحرير سبعة من الفتيات والنساء كن محتجزات لدى عصابة الشبح. حرص كمال على تغطية السيدات والفتيات المخطوفات بحيث لا يعرف احد هويتهن حتي يتسلمهم أهاليهم حرصا على سمعة وشرف العوائل بالقرية.
أخذ المضبوطين إلى مركز الشرطة وجرى استجوابهم للتعرف على الرأس المدبرة للجرائم وأعوانه وهل هو ضمن المقتولين أو المصابين أو الأصحاء وكانت مهمة عسيرة حيث أن كل هؤلاء بلا هوية ومحترفي إجرام والكثير منهم من أصحاب السوابق المتعددة ومن الصعب أن يقر بشيء، ولكن خبرة كمال في هذه الأمور كبيرة حيث يستطيع من فحصه للمتهمين أن ينتقي أضعفهم ثم يضغط عليه بأساليب كثيرة حتى يكسره ويحصل منه على معلومات تقود إلى الوصول إلى الحقيقة. بعد ثمانية وأربعون ساعة فقط عرف كمال أن الشبح هرب أثناء الهجوم من مخرج خفي للمغارة لا يعرفه سوى القليل من رفاقه واستطاع أيضاً أن يعرف شخصية واسم الشبح الحقيقي فقد تبين أنه أحد المجرمين الهاربين من عشرات الأحكام بالسجن للقتل و للشروع في القتل والسرقة وقطع الطرق وتبحث عنه الشرطة.
لم تكتمل فرحة كمال وحملته للقضاء على الشبح وأعوانه فقد هربت الرأس الكبيرة وكان من الصعب ان ينتشر الخبر بنجاح تطهير الجبل من المطاريد ولكن المكسب الوحيد هو التعرف على شخصية الشبح ونشر صوره في كل أنحاء الجمهورية للقبض عليه.
بعد ثلاثة أسابيع من هروب الشبح وردت إخبارية بأن شخصا بنفس مواصفات الشبح شوهد بأحدى قري محافظة أسوان.
تسلم كمال الخبر بلهفة ورغبة شديدة في التأكد منه، وتحقق من الخبر ثم استأذن وزير الداخلية بأن يقوم هو نفسه بالقبض على الشبح. وافق الوزير علي طلب كمال ثم بدأ خطته في كيفية القبض على الشبح دون إعطائه فرصة للهرب مرة أخرى وكان من الصعب أن يسير حملة للقبض عليه لأن مجرد حضور الحملة إلى القرية كان كفيلا بتحذيره وهروبه مبكرا قبل الوصول اليه.
قرر كمال أن يقوم اثنين من الضباط المهرة والمسلحين بالطبنجات بارتداء ملابس النساء الصعيديات ويحملن سلة فوق رؤوسهن ويتجهن مباشرة للبيت الذي يوجد به الشبح حيث يقيم في مضيفة البيت في الجزء الخارجي منه، وصل الضابطان المتخفيان إلى باب المضيفة بعد المغرب مباشرة ودق أحدهم الباب وقام الشبح ليفتح الباب للطارق وما هي إلا لحظة حتي أمسك به الضابطين ووضعا الكلبشات في أيديه خلف ظهره دون أدني مقاومة.
لم ينتبه أصحاب المنزل إلى القبض على ضيفهم إلا بعد ان أتت الحملة بقيادة كمال لتأخذ الشبح فوقف الجميع مشدوهين لما يحدث ولكن كمال ورفاقه لم يكن يهمهم الا القبض على المجرم الهارب الذي روع أهل قرية المنيا وقتل منهم الكثير وسبى نساءهم وبناتهم.
خرجت الحملة من أسوان ومعها السجين المهم وفي الطريق وجد كمال معالي الوزير على الخط يسأل إيه الاخبار يا كمال
رد كمال تمام يا فندم المجرم معنا الآن
قال الوزير: و رايح بيه على فين
قال كمال: للمركز يافندم علشان يرحلوه للمحاكمة
قال الوزير: محاكمة إيه وزفت إيه يا كمال إنت لسه مفهمتش اننا مش فاضيين للكلام ده
قال كمال: طب إيه المطلوب يا فندم
قال الوزير: خلص ياكمال وكلب وراح
قال كمال: فهمت يا فندم وحا نفذ أوامرك
قال الوزير: مش عايز الصبح ييجي قبل ما تنفذ المطلوب
سارت حملة الشرطة تتقدمها سيارة ثم سيارة كمال والضباط المصفحة وتليها السيارة التي بها المجرم ثم سيارة الجنود والذين كانت فرحتهم كبيرة لهذا الصيد الثمين الذين لا يعرفون من هو وإلى أين سيذهبون به.
خرجت الحملة من القرية في الظلام الدامس ومن خلال طريق يصعب السير به نهارا فكيف يكون ليلا؟
وفي منتصف الطريق أوقف كمال الحملة على جانب الطريق في هذا الظلام الدامس وطلب من السيارات المصاحبة الإتجاه إلى المركز ما عدا السيارة التي تحمل الشبح حيث أنزل المتهم من السيارة وأخذه مقيد اليدين من الخلف على ضوء بطاريته سحبه من ذراعه ومشي به هو والضباط الثلاثة بعيدا عن عيون الجنود المرافقين. وعلى بعد عدة أمتار من القافلة طلب كمال من المتهم أن يركز على رجليه ثم تابع موجها كلامه للشبح قل الشهادة يا إبن الكلب رد الشبح أنا مش ابن كلب أنا ابن ناس زيك
قال كمال متضيعش وقتنا ابن ناس والا ابن عفاريت ، قل الشهادة وخلصنا عرف الشبح أنه سيعدم على قارعة الطريق وقال للضابط كمال: قبل ما انطق بالشهادة لي طلب واحد عندك لا تطلق الرصاص على رأسي من الخلف ولكن أطلقه على جبهتي
قال له كمال، طلبك مجاب
وما هي الا ثواني وكان طلب الشبح قد تحقق ليسقط صريعا برصاصة من مسدس أحد الضباط الأربعة فلم يصرح لي صاحب الرواية اللواء كمال من أطلق الرصاصة على رأس الشبح.
حمل الجنود الجثة ووضعوها في شنطة السيارة وأكملوا طريقهم إلى مركز الشرطة.
أخرج كمال تليفونه وطلب معالي الوزير ليبلغه أن المهمة انتهت ولكن الوزير لم يرد وحاول كمال مرة أخرى ولم يرد الوزير أيضاً.
وفي اليوم التالي فوجئ كمال بخبر في الصفحات الاولي من الصحف يحكي قصة طويلة عن مطاريد الجبل وزعيمهم الذين تم القبض عليهم وتم قتل زعيمهم مع العشرات من أنصاره في معركة انتصرت فيها الشرطة التي لا تنام الليل لحراسة الوطن وتقديم الخارجين عن القانون للعدالة وأن الشرطة دائما في خدمة الشعب ، ولم يجد ذكرا لإسمه في هذه العملية، وهذا من سياسة الوزارة المعروفة حتى لا يتعرض الضباط إلى الانتقام من أسر المقتولين أو المقبوض عليهم.