عزاء واجب
دكتور محمد المليجي
منذ سنة أولى إعدادي بمدرسة كفر الشيخ الإعدادية وحتى الثانوية العامة بمدرسة طنطا الثانوية كان قدري ان أكون دائما احد أعضاء مجلس الفصل الأربعة الذين يحددون مسار الفصل الثقافي والرياضي والاجتماعي والفني وكنت دائما المندوب الفني للفصل بلا منازع، ليس لأني طويل وعريض مثل مندوب الفصل الرياضي ولا لأنى أشطر الطلاب في اللغة العربية والشعر كا لمندوب الثقافي ولا لأني غلبان وف حالى مثل المندوب الاجتماعي ولكنى كنت موهوب في الرسم منذ البداية ولم يكن احد ينافسني في ذلك حتى مدرس الرسم وقداكتشفت ان غالبية مدرسين الرسم ليسوا رسامين وان كان لهم بالطبع مواهب فنية اخري.
كان من واجبات مجلس الفصل المشاركة في كل المسابقات وفي كل المناسبات وكان لدينا مدرس في تانية إعدادي يدرس الرياضات يسمى ابو دراع ويبدوا ان لقبه هذا جاء من تاريخ طويل ورثه عن اجدادة في استخدام ذراعه الضخم وكفه الذي يشبه المطرحة في صفع الطلاب.
كنا نكره هذا المدرس الكشر الذي يهددنا باللطم على الوجه والقفي إذا اخطأنا في مسألة او حسبه من دروسه فكان الطالب يقف في الفصل ليجيب سؤال ابو دراع وهو محيطا رأسه وقفاه بذراعيه الصغيرتين حماية من تلطيش ابو دراع .
في احد الأيام غاب مدرس الرياضة ابو دراع عن الحصة وحدث هرج ومرج وفرح في الفصل فقد غاب عنا ابو دراع لأول مرة وتركنا الدكك وبدأنا نركض في طرقات الفصل. سمع هرجنا الاستاذ حسن مدرس الجغرافيا في الفصل المجاور فترك فصله ودخل علينا ونحن نقيم حفلة غياب ابو دراع وبمجرد دخوله علينا صمت الفصل وانسحب كل منا الى مقعده فوبخنا الاستاذ حسن وقال: عيب عليكم تعملوا كده علشان غياب استاذكم اللى والدته توفت امبارح .. بدل ما تعزوه تعملوا كده.. فين مجلس الفصل بتاعكم .. أعضاء مجلس الفصل قيام.
نهضت من مقعدى ونهض الثلاثة الآخرون، قال الاستاذ حسن … أي تلميذ يعمل شقاوة تجيبولى اسمه بعد الحصة والا سأعاقبكم أنتم.
وقفت انا ومجلس الفصل نسجل اسماء التلاميذ الذين يعملون شقاوة على السبورة حتى امتلأت حيث لم يرتدع التلاميذ ولم يعملوا لمجلس الفصل اي حساب وكأنهم يعرفون الخطوة التالية، وقبل نهاية الحصة بدقائق نهض بلطجي الفصل شيحا شحته شيحا وفرق جمعنا ومسح كل الأسماء المكتوبة على السبورة وسط ضحك التلاميذ من مجلس الفصل الخايب.
كان شيحا تلميذ يعيد الصف الثاني الإعدادي وكان حجمه مثل ثلاثة منا ولكنه لا يتكلم أبدا مع أحد الا نادرا ولا يتدخل الا عند الضرورة ويستأجره الضعفاء للدفاع عنهم بسندوتش أو بطاطاية مشويه. وكان يكره الحرنكش ويعشق الفول السوداني وكان اي تلميذ مهما كان صغر حجمة يستطيع بكيس فول سوداني ان يجر خلفه شيحا الضخم الذي يشبه الفيل ليضرب تلميذ تاني وكأننا في سيرك.
انتهت الحصة دون ان نسجل اسم تلميذ واحد ولم نجرأ على تبليغ المدرس حسن عما فعله شيحا الفيل خوفا من العاقبة. كان موت ام أستاذ الرياضيات ابو دراع مدعاة للفرح والشماته من الكثير من تلاميذه الصغار والقليل كان يعرف معني الموت أو شعور من ماتت أمه مهما كان عمره.
اجتمعنا نحن مجلس الفصل وقررنا ان نقوم بتعزية الاستاذ ابو دراع في بيته وكنت صاحب الفكرة التى استغرب منها زملائي الصغار ولكنهم قبلوا بها خوفا من الاستاذ وشعورا بالذنب من ردة فعل تلاميذ الفصل الذي نحن مسئولين عنه.
كان الثلاثة الآخرين في مجلس الفصل نماذج مختلفة تماما في الشكل والحجم والحالة الاجتماعية فكان المندوب الرياضي احمد طويل القامة أشقر اللون لا يجيد شيئا في حياته سوي لعب الكرة الطائرة ولعب الكوتشينه ولا يفقه اي شيء في الحياة غير ذلك وكان يقضي معظم حياته سفرا في القطار من الرياض الى كفر الشيخ فيأتي للفصل متعبا او مصابا في عركة في القطر مع آخرين، أما ياسين المندوب الثقافي فقد كان نحيلا ذو نظارات سميكة يتلفت حوله دائما خوفا من أمه التى تحيطه ليل نهار بعناية مركزة حتى لا يخيب خيبة اخوه الأكبر بعد ان ترك لها البيت ابوه وتزوج من أخري اما المندوب الثالث الاجتماعي صابر فكان والده عسكري في البندر وكان شخصية طيبة للغاية لديه لازمة في كلامه ” وماله” فكان يبدأ أي جملة بهذه الكلمة ثم يكمل الحديث فسماه التلاميذ ” صابر وماله” نسيت ان أصف المندوب الرابع او العبد لله .. مش مهم
قررنا الذهاب لتقديم العزاء للأستاذ ابو دراع في بيته بعد صلاة المغرب وكنت قد قررت ان ارتدي جاكيت أو بلوفر اسود لزوم الحزن وليناسب موقف العزاء وربما اكتسبت هذه الصفة من جدتي عليها رحمة الله عندما كانت ترتدي دائما عباءة سوداء عند كل وفاة وكنا عندما نراها تبحث عن عبائتاها السوداء في الصباح البكر نتأكد ان عزرائيل زار البلد ونحن نيام. كنت ايضا ارغب في ان يعتقد الاستاذ ابو دراع أنى حزين على موت أمه الله يرحمها رغم اني لا اعرفها . بحثت عن لبس مناسب للعزاء ولم اجد لدي غير لبس المدرسة الذي ينحصر في شورتات وفانيلات وبنطلونين طوال في الغسيل. بحثت في ملابس أخي الأكبر فوجدت فانلة سوداء برقبه فلبستها فوق ملابس المدرسة وثنيت أكمامها الطوال وحشرت الباقي من طولها في الشورت وضربت بوذ حزين استعدادا للعزاء وتوجهت الى مكان تلاقي مجلس الفصل امام مدرسة كفر الشيخ الإعدادية.
وجدت باقى أعضاء المجلس منتظرين وكانت الدهشة على وجوههم من منظري المحزن على غير العادة فقد تعودوا اني دائما مبتسم و صاحب نكته ولكن يبدوا ان المناسبة اثرت على سلوكي. ورغم ذلك وجدت ان باقى أعضاء المجلس شعروا ان منظري هذا يجعلني مؤهلا لموقع القيادة لتأدية العزاء فسرنا في خطوات جنائزية نبحث عن بيت الاستاذ ابو دراع وعندما اقتربنا من المنطقة في احد احياء المدينة سمعنا صوت الميكرفون يقرأ القرآن ورأينا على البعد صيوان منصوب وبه عدد غفير من المعزيين ورجال مصفوفين لتقبل العزاء وكان المنظر مهيبا لأطفال في مثل عمرنا فلم نتصور ان الموضوع بهذه الضخامة فنحن لا نريد الا شيء واحد وهو ان يرانا الاستاذ ونحن نعزي ثم نعود من حيث أتينا.
ترددنا في إكمال المهمة خاصة أن أطول واحد فينا المندوب الرياضي الذي وقف بقميص وبنطلون ابيض على الرصيف يحاول ان ينظف ملابسه من طرطشة الطين من عجل سيارة مرت سريعا بجواره فرسمت لوحة سريالية من الطين على صدره ووجهه.
بعد تردد قررنا إكمال المهمة وتقدمت الفريق بفانلتي السوداء وكأننا لصوص يحاولون سرقة بنك، وكان منظرنا بالتأكيد ملفتا للنظر وبلا شك مثيرا للضحك خاصة اننا لا نعرف ماذا نقول من عبارات العزاء وكنت أتقدم طابور أعضاء مجلس الفصل الأربعة وانا شبه مخدر واسمع سباب من هم خلفى لى .. وهم يقولون”الله يخرب بيت شورتك يا مليجي” كان الجميع مجمعين على ترديد هذا السباب حتي وصلنا الى الواقفين لتقبل العزاء ولم يكن مدرسنا ابو دراع منهم .. مررنا بكفوفنا الصغيرة على اكثر من عشرون مستقبلا ثم بحثنا عن أربعة مقاعد خالية في الصيوان وهذا أخذ من بعض الوقت نلف وندور وسط المعزيين حتى جلسنا معا.
بعد ان جلسنا بدقائق وجدت قهوجي العزاء يقدم لي صينية وعليها ثلاث فناجيل من القهوة فلم أتردد في أخذ احدهم وتبعني زملائي ظنا مننا ان هذا تقليد لا بد ان يتبع ولكن الصدمة كانت ان القهوة كانت باردة تماما وبلا ذرة سكر ، لم يكن هناك بد من ان نتخلص من القهوة بأي طريقة خاصة ان رفاقي كانوا ينظرون الى نظرة قرف شديد لأني السبب في هذه الورطة فمن الصعب شرب القهوة ومن غير الممكن ان نفرغها على السجاد تحت الكرسي. جلسنا منتظرين الفرج لنتخلص من القهوة وفي نفس الوقت عيوننا تبحث عن مدرسنا ابو دراع لنعزيه أو حتى يعرف اننا حضرنا لنعزيه ولم نجد له أثر في كل هذا الجمع كما لم نشاهد مدرس واحد من مدرستنا لنسأله عن الاستاذ ابو دراع .
فجأة سمعنا الشيخ يقول صدق الله العظيم وهب الناس ليخرجوا من الصيوان وكأنهم يهربون من زلزال فوضعنا حملنا من فناجيل القهوة تحت الكراسي بسرعة وانطلقنا جريا للخروج من العزاء والخلاص من هذه الورطة الرهيبة التى وقعنا فيها في هذه الليلة السوداء.
خرجنا من العزاء وسرنا في الشارع نعاتب بعضنا ونحاسب انفسنا ونضحك على ما حدث لنا وكانوا بالطبع يلقون كل اللوم على العبد لله صاحب فكرة العزاء، ونحن نتعاتب في عرض الطريق رأينا الاستاذ حسن ينزل من عمارة اخري تبعد قليلا عن الصيوان الذي كنا فيه وسمعنا قرآنا آخر وضوءا ساطعا آخر يشع من شقة فى الدور الثالث للعمارة وفهمنا رغم صغرنا اننا ذهبنا للعزاء الخطأ ورغم ذلك لم احاول كما لم يفكر رفاقي من أعضاء مجلس الفصل في الصعود لتقديم العزاء للأستاذ ابو دراع واكتفينا بعزاء واحد هذه الليلة لتبقى ذكري من ذكريات الطفولة التى لا تنسي.
من مجموعتي القصصية “نوران”