د. محمد المليجي
بعد يوم حافل قضته سميرة مع أطفال جارتها تذوقت فيه لأول مرة طعم العائلة ومسئولية تربية الأطفال ولو لفترة وجيزة. عادت سميرة إلى حياتها المعتادة وعم السكون شقتها الرتيبة وزادت هذه التجربة شعورها بالوحدة.
عادت الى نفس العمل والتقت نفس الوجوه وأصبحت صور أطفال جارتها لا تغيب عن خاطرها وكأنها طيف احتل كيانها ورفض الرحيل.
كانت سميرة تتمنى أن تضرب كرتهم بابها مرة أخري حتى تراهم ولكنهم لم يفعلوا ذلك بعد زيارتهم لها فقد أصبح الأطفال أكثر حرصا على راحة ماما سميرة بعد قضوا معها ليلة واحدة. كانت عندما تسمع ضجة خارج بابها تتصنع أنها تخرج القمامة وتفتح الباب لتطل عليهم ولكن لم يصادفها الحظ أبدا لتراهم مرة أخري وعم الصمت حولها فى الداخل وفى الخارج.
لم تكن سميرة قادرة على أن تغير شيئا فى حياتها التى تعودت عليها وكيف يمكن لها أن تستعيد ما فقدته فى اكثر من عشرون عاما مضت عليها بلا أصدقاء وبلا زوج أو أطفال. استسلمت لقدرها وعادت للانغماس فى مشاكل عملها وحاولت أن تنسى غزوة أطفال جارتها لها.
مر شهر تقريبا منذ خرجت هايدي وأخويها من شقة سميرة وبعد صلاة عصر أحد الأيام وجدت سميرة باسم وأحمد وهايدي يرتدون ملابس جميلة وتحمل هايدي شيئا ويطرقون بابها.
دهشت سميرة لرؤيتهم من خلال العين السحرية للباب وفتحت الباب بسرعة لتستقبلهم.
نظر إليها باسم وقال:
ماما بتسلم عليكي ياماما سميرة وباعتالك حاجة بسيطة
وبادرت هايدي بيديها الرقيقتين بتقديم العلبة التي بها بعض الفطائر.
قالت سميرة:
أتفضلوا يا ولاد ادخلوا وحملت عنهم علبة الفطائر، وفى هذه المرة جلس الثلاثة فى غاية الأدب والنظام على كنبة واحدة ولم ينتشروا فى الشقة كما فعلوا فى أول زيارة.
كانت سميرة غير قادرة على التفاعل سريعا مع الموقف ولكنها تداركت صمت الأطفال وهم يدققون فيها فقالت:
شكرا لكم ولماما على هذه الهدية اللطيفة ثم جلست أمامهم وسألت ماذا تحبون أن تشربوا.
قال الجميع لا شيء ولاحظت سميرة أن هايدي التي تجلس بين أخويها تلمس ذراع باسم مكررا وكأنها تريد أن تذكره بشيء فقالت لها سميرة:
فيه إيه يا هيدي ؟
حينها نطق باسم قائلا:
ماما عايزة رقم تليفون حضرتك علشان تعزمك تحضري معانا فى عيد ميلاد هايدي بعد بكره
لم ترد سميرة ووقفت عاجزة عن الكلام وهي تحملق فى هايدي بالذات ثم قالت:
أشكركم على الدعوة ويسعدنى ان أكون معكم ولكنى مشغولة جدا حتى نهاية الأسبوع.
وقع هذا الرد على الأطفال كالصاعقة خاصة هايدي التى تغيرت ملامح وجهها وكادت تبكى لولا أن سارعت سميرة بالقول:
ولكنى سأحاول الحضور.
ابتسمت هايدي قائلة:
والنبي تيجي يا ماما سميرة.
كانت كلمات هايدي الناعمة الرقيقة كالسهام الحريرية التى اجتاحت روح سميرة وجعلتها تلبى الدعوة بلا تردد.
قالت سميرة:
هذا رقم تليفوني وصلوه لماما وقولوا لها أن هايدي خلاص دعتني وإن شاء الله سأحضر
خرج الأطفال الثلاثة فرحين بقبول سميرة لهديتهم ودعوتهم لها لحضور عيد ميلاد هايدي بعد غد.
أغلقت سميرة الباب خلفهم بعد هذه الزيارة القصيرة التى أنعشت لديها الأمل فى أن تعود لرؤيتهم مرة أخري ولكنها لا بد أن تستعد لحفل الغد وهي التى لم تحضر حفلا واحدا منذ زفاف ابنة خالتها وفاء منذ أكثر من سبع سنوات.
دخلت سميرة إلى حجرة ملابسها وظلت تقلب فى فساتينها التى امتلأ بها دولابها ولم ترتدي الا القليل منهم بعد أن تغيرت الموضات وزاد وزنها قليلا ليضع الكثير منهم خارج الخدمة. بحثت عن مكياجها الذى جفت معظم أنابيبه وعلبه وشعرت بالإحباط الشديد بالعطب الذى أصاب حياتها فكل شيء حولها خارج أدوات العصر ولا يليق بمقابلة الناس فى حفل عيد ميلاد يجب أن تستعد له بعد غد.
فكرت سميرة فى الاعتذار عن الحضور ولكنها لم تقاوم صورة عيون هايدي المتوسلة لحضورها ولم تستطيع أن تغضبها هي وأخواتها.
جلست سميرة على مقعدها المفضل تفكر كيف تعد نفسها للحضور وهي غير جاهزة لهذه الدعوة المفاجئة وقد اعتراها إحساسا بأنها مثل السيارة القديمة التى أصبحت خارج الخدمة ولا يمكن أن تنافس مع السيارات الحديثة التى تمرق حولها متباهية بجمالها فى الطريق وفى العمل.
نهضت سميرة من مقعدها وقررت الذهاب الى السوق وشراء فستان جديد وماكياج جديد وحقيبة جديدة واختارت أحد مجمعات التسوق الحديثة التى سمعت عنها فى القاهرة ولم تفكر يوما فى زيارتها.
وصلت سميرة الى المجمع التجاري الذى يعج بالحياة والشباب والكبار والصغار كل يبحث عن شيء يسعده وكانت فى البداية مندهشة ومتوجسة من كل شيء حولها ولكن هذا الشعور لم يستمر كثيرا حيث استطاعت بخبرتها فى الحياة والعمل أن تشق طريقها وسط هذا الزحام وتنتقى فستانا رائعا وحذاءا وحقيبة متناسقين مع الفستان وكانت فى قمة السعادة وهي تمر بهذه التجربة التى نستها من زمن بعيد.
عادت سميرة الى بيتها متأخرة على غير العادة ولكنها لم تكن مهتمة لأول مرة بالعودة متأخرة ولم تكن خائفة من الناس حولها وكان عم سعيد البواب متعجبا هو الآخر من سلوكها الجديد بعد أن طلبت منه أن يحمل مشترياتها الى شقتها بعد الثانية عشر مساءا.
لم يتعود عم سعيد على حمل أشياء بهذه القيمة لها من قبل وكل ما حمله الى شقتها هو الخبز وأكياس الفاكهة والخضر والجرنال وأنبوبة الغاز.
دخلت سميرة شقتها وتجردت من ملابسها أمام المرآة العجوز لتقيس فستانها الجديد وكان رائعا ذو ألوان مثل الربيع المزهر يضفى على من ترتديه بهجة ومرح الشباب.
نظرت سميرة الى المرآة ولم تصدق أنها مازالت جميلة وأنها سجنت نفسها فى البنطلونات والجاكيتات كما تفعل المستشارة الألمانية ميركل.
كان الفستان ذو خلفية زرقاء فاتحة مثل السماء الصافية وتنتثر عليه أزهار زرقاء داكنه ومركزها أصفر بينما تتسلل خلفها فروح خضراء دقيقة تحمل زهورا حمراء فى تناسق عجيب ورومانسية تلمسها من نعومة ومخملية القماش.
لم تفكر سميرة فى كم عمرها أو كم دفعت فى هذا الفستان الذى بدل مظهرها تماما وجعلها تقف أمام المرآة بعد منتصف الليل سعيدة منتشية كطفلة فى ليلة العيد.
كان هناك شيئا غير متوافق مع الفستان والحذاء والحقيبة إنه شعرها وطريقة تصفيفه وتلك الشعيرات البيضاء التى بدأت تتسلل إلى حدوده الخارجية مهددة بغزوه بالكامل.
قالت سميرة لمرآتها:
سأهزمك أيتها المرآة العتيقة وسأذهب شيبك وغدا سأذهب للكوافير.
ولكنها فكرة جريئة ومجنونة حقا فلم تتعود سميرة على تصفيف شعرها لدي الكوافير وكانت تعتبر هذا ترفا لا يليق بمنزلتها وعمرها. ولكن بعد تفكير وجرأة لم تتعود عليها فى حياتها قررت أن تأخذ غدا أجازة وتذهب للكوافير لتصفف شعرها فى صباح يوم حفلة هايدي وقبل أن تزدحم هذه المحلات حيث قد يراها بعض من يعرفونها ويفتضح أمرها بين الناس.
اختارت سميرة من النت سيدة مشهورة بتصفيف الشعر وكانت أول زبونه لديها فى اليوم التالي ولم يستغرق الأمر ساعتين حتى خرجت سميرة بشكل ولون جديد اخرجها من عالمها القديم الى عالم جديد كانت قد نسيته. وفى طريقها الى بيتها اشترت ثلاث هدايا للأطفال الثلاثة استعدادا لعيد ميلاد هايدي.
قبل الموعد المحدد لعيد الميلاد بساعات كانت سميرة تستعد للحفل وقلبها ينبض كقلب عصفور خائف من صوت البرق ورغم أنها كانت فى قمة نشوتها وإعجابها بنفسها فقد انتابها القلق وظلت تتحرك ذهابا وإيابا فى صالة شقتها حتى تعبت فجلست على مقعدها المفضل مقابل قطعة من الأساس وضعت عليها صورة والدتها.
شعرت فجأة أن أمها تنظر لها نظرة استغراب وكأنها تقول لها ماذا فعلتى بنفسك وإلى أين أنت ذاهبة بهذا الفستان الجميل ؟ نظرت سميرة فى صورة أمها للحظات ووجدت سميرة أن الإحباط بدأ يتسلل الى نفسها وبدأت تفقد البهجة التى اعترتها وتواري ذلك الحماس للذهاب لعيد ميلاد هايدي.
ألقت بالهدايا على الكنبة المقابلة وتمددت على مقعدها مرة أخري مستسلمة لنوبة الإحباط التى عادت تسيطر عليها وبدأت تغفوا رويدا رويدا.
جاء موعد الحفل ولم تصل سميرة فخرجت هايدي من بين الناس والأطفال المدعويين وتوجهت الى شقة سميرة وقرعت جرس الباب لتنهض سميرة مفزوعة من غفوتها الطويلة وتفتح الباب وتجد هايدي تقول لها: ماما سميرة .. كلنا فى إنتظارك.
لم تقاوم سميرة وحملة صناديق هداياها وتوجهت الى شقة جارتها وكانت تعج بالحركة ولتري وجوها لم تراها من قبل ولم تكن تعرف أن هناك مدعويين آخرين بهذا العدد. كان الجميع يرمقون سميرة بنظراتهم المتسائلة